أهلا وسهلا بمعهد الخاص الحليمي ساسيلا غنونج ساري لمبوك الغربية

Selasa, 06 Desember 2011

TGH H. Jalaluddin Rais Meninggal

Innalillahi wa inna ilaihi ra'jiuun
telah meninggal TGH.H. Jalaluddin Ra'is




Sesela Kec. Gunungsari Kab. Lombok Barat NTB salah seorang Tuan Guru di Ponpes. Al - Halimy Sesela.


pada hari : Senin Tgl, 05 desember 2011 bertepatan dengan tanggal, 09 Muharram 1433 H. dan dimaqamkan di pekuburan Sesela pada hari Selasa,06 Desember 2011 bertepatan dengan tanggal, 10 Muharram 1433

Baca selengkapnya......

Minggu, 14 Agustus 2011

Adab seorang santri dan Ustaz

آداب العلماء والمتعلمين
الحسين بن المنصور بالله
الفصل الأول
آداب العالم في علمه
وفيه اثنا عشر نوعاً
النوع الأول:
أن يقصد العالم بعلمه وجه الله تعالى ولا يقصد به توصلاً إلى غرض دنيوي، كتحصيل مال أو جاه أو شهرة أو سمعة أو تميز عن الأقران ونحو ذلك، ولا يشين علمه وتعليمه بشيء من الطمع في رفق يحصل له من مشتغل عليه بمال أو خدمة أو نحوها، وإن قل وإن كان على صورة الهدية، التي لو لا اشتغاله عليه لما أهداها إليه، وكان منصور لا يستعين بأحد يختلف إليه في حاجة، وقال سفيان بن عيينة: كنت قد أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة من أبي جعفر سلبته نسأل الله المسامحة، وينبغي له أن يصحح نيته عند الشروع في كل ما يفيده.
قال أبو مزاحم الخاقاني: قيل لأبي الأحوص حدثنا، فقال: ليت لي نية، فقالوا له: إنك تؤجر، فقال شعراً:
يمنوني الخير الكثير وليتني نجوت كفافاً لا عليّ ولا ليا
وقد صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال: وددت أن الخلق تعلموا مني هذا العلمِ على أن لا ينسب إلي حرف منه. وقال رحمه الله: ما ناظرت أحداً قط على الغلبة، ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر على يديه، وقال: ما كلمت أحداً قط إلا وددت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ. وعن أبي يوسف رحمه الله قال: يا قوم أريدوا بعلمكم الله، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم، إلا لم أقم حتى أفتضح.
الثاني:
دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلانية، والمحافظة على خوفه في جميع حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، فإنه أمين على ما أودع من العلوم، وما منح من الحواس والفهوم. قال الله تعالى: )لا تخوَنوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون(. وقال تعالى: )بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشونِ(.
قال الشافعي: ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع، وعليه بدوام السكينة والوقار والخشوع والورع والتواضع والخضوع.
ومما كتب مالك إلى الرشيد: إذا علمت علماً فلْيُرَ عليك أثره، وسكينته وسمته، ووقاره، وحلمه. لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: العلماء ورثة الأنبياء.
وقال عمر: تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار وعن أبي هريرة مرفوعاً: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة. وتواضعوا لمن تعلمون منه. رواه الطبراني في الأوسط. وعن السلف رحمهم الله: حق على العالم أن يتواضع لله، في سره وعلانيته ويحترس من نفسه ويقف عما أشكل عليه.
الثالث:
أن يصون العلم كما صانه علماء السلف، ويقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف، فلا يدنسه بالأطماع، ولا يذله بذهابه ومشيه إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة أو حاجة أكيدة، ولا إلى من يتعلمه منه منهم، وإن عظم شأنه وكبر قدره وسلطانه.
قال الزهري: هو أن بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم. وقال مالك بن أنس للمهدي وقد استدعاه لولديه يعلمهما: العلم أولى أن يوقر ويؤتى، وفي رواية: العلم يزار ولا يزور ويؤتى ولا يأتي. وفي رواية: أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون، ويروى عنه أيضاً أنه قال: دخلت على هارون الرشيد فقال يا أبا عبد الله: ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ، قال: فقلت أعزك الله أن هذا العلم منكم خرج، فإن أنتم أعززتموه عز، وإن أذللتموه ذلَّ والعلم يؤتى ولا يأتي فقال: صدقت اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا من سمع الناس.
ويروى أن الرشيد سأله هل لك دار? فقال: لا. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال: اشتر بها داراً، فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق قال لمالك: ينبغي لك أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على القرآن، فقال له: أما حما، الناس على الموَطأ فليس إلى ذلك سبيل، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم افترقوا بعده في الأمصار، فحدثوا فعند أهل كل مصر علم. وقد قال صلى الله عِليه وعلى آله وسلم: اختلاف أمتي رحمة، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، وهذه دنانيركم كما هي أن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها، يعني أنك إنما حملتني على مفارقة المدينة بما اصطنعت لدي فلا أوثر الدنيا على الأخرى، وأخرج الخطيب البغدادي في الجامع عن مقاتل بن صالح الحميدي قال: دخلت على حماد بن سلمة فبينما أنا عنده إذ دق رسول محمد بن سليمان فدخل فسلم وناوله كتابه فقال: أقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة.
أما بعد فصبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها، فقال لي: اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت صبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعِته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجالك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام.
فبينما أنا عنده جالس إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا? قالت: هذا محمد بن سليمان، قال: قولي له يدخل وحده، فدخل فسلم ثم جلس بين يديه، ثم ابتدأ فقال: مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعباً، فقال حماد سمعت ثابتاً البناني يقول: سمعت انس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء. فقال: ما تقول يرحمك الله? وذكر مسألته وجوابها، ثم قال وحاجة إليك قال: ما لم تكن رزية في دين، قال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه، قال: أرددها على من ظلمته بها قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته قال: لا حاجة لي فيها، ازوها عني زوى الله عنك أوزارك، قال فغير هذا، قال: هات ما لم يكن رزية في دين، قال: تأخذها فتقسمها، قال: فلعلي أن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها أنه لم يعدل في قسمتها فيأثم، إزوها عني، زوى الله عنك أوزارك.
وسيأتي في الفصل الخامس ما اتفق لبعض أولاد المهدي العباسي مع شريك.
وأخبار السلف في هذا الباب كثيرة شهيرة. فإن دعت حاجة أو ضرورة إلى شيء من ذلك، واقتضته مصلحة دينية راجحة على مفسدة بذله وحسنت فيه نية صالحة فلا بأس به، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض السلف من المشي إلى الملوك وولاة الأمر، كالشافعي وغيره، لا على أنهم قصدوا بذلك فضول الأغراض الدنيوية، وكذلك إذا كان المأتي إليه من العلم والزهد في المنزلة العلية والمحل الرفيع، فلا بأس بالتردد إليه لإفادته، فقد كان سفيان الثوري يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده، وكان أبو عبيد يمشي إلى علي بن المديني يسمعه غريب الحديث.



الرابع:
أن يتخلق بما حث الشرع عليه من الزهد في الدنيا والتقلل منها بقدر الإمكان، فإن ما يحتاج إليه منها على الوجه المعتدل من القناعة لا يعد من الدنيا، وأقل درجات العالم أن يستقذر المعلق بالدنيا ولا يبالي بفواتها، لأنه أعلم الناس بخسّتها، وفتنتها، وسرعة زوالها، وكثرة عنائها، وقلة غنائها.
وعن الشافعي رحمه الله: لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، فمن أحق من العلماء بزيادة العقل وكماله. وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تبراً يفنى والآخرة خزفاً يبقى، لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني، فكيف والدنيا خزف فانٍ والآخرة تبر باق. وعليه بالسخاء والجود على حسب الوجود.
الخامس:
أن يتنزه عن دنيء المكاسب ورذيلها طبعاً، وعن مكروهها عادة وشرعاً، كالحجامة والدباغة والصرف والصياغة، ويتجنب مواضع التهم وأن بعدت، ولا يقيل شيئاً يتضمن نقص مروة، وما يستنكر ظاهراً وإن كان جائزاً باطناً فإنه يعرض نفسه للتهمة، وعرضه للوقيعة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة، وثم الوقيعة. فإن اتفق وقوع شيء من ذلك منه لحاجة أو نحوها، أخبر من شاهده بحكمه، وبعذره ومقصوده، كيلا يأثم من رآه بسببه، أو ينفر عِنه فلا ينتفع بعلمه ولا يستفيد بذلك الجاهل به. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للرجلين لما رأياه يتحدث مع صفية: فوليا على رسلكما إنها صفية، ثم قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، وفي رواية: فتهلكا.
السادس:
أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام، كإقامة الصلوات ومساجد الجماعات، وإنشاء السلام، للخواص والعوام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك صادعاً بالحق عند السلاطين، باذلاً نفسه لله لا يخاف فيه لومة لائم، ذاكراً قوله تعالى: )واصبر على ما أصابك أن ذلك من عزم الأمور(.
وما كان رسول الله صلى اللهّ عليه وعلى آله وسلم، وغيره من الأنبياء عليه من الصبر على الأذى، وما كانوا يتحملونه في الله تعالى حتى كان لهم العقبى. وكذلك القيام بإظهار السنن، وإخمال البدع، والقيام لله في أمور الدين، وما فيه من مصالح المسلمين على الطريق المشروع، والمسلك المطبوع، ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله تعالى على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدي بهديهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد من الانتفاع به، كما سبق من قول الشافعي رحمه الله. ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع. ولهذا عظمت زلة العالم لما يترتب عليها من المفاسد لاقتداء الناس به.
السابع:
أن يحافظ على المندوبات الشرعية؛ القولية والفعلية، ولبالغ في ما يتضمن إجلال صاحب الشريعة النبوية، وتعظيمه واتباعه صلى اللهّ عليه وعلى آله وسلم، فيلازم تلاوة القرآن، وذكر الله تعالى بالقلب واللسان، وكذلك ما ورد من الدعوات والأذكار في إناء الليل والنهار، ومن نوافل العبادات من الصلاة والصيام، وحج البيت الحرام، والصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن محبته وإجلاله وتعظيمه واجب، والأدب عند سماع اسمه وذكر سنته مطلوب وسنة. وكان في الصادق بن محمد الباقر عليهما السلام، إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند: اصفرّ لوَنه، وكان مالك رحمه الله إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتغير لونه وينحني. وكان ابن القاسم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجف لسانه في فيه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم. وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكّر في معانيه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، والوقوف عند حدوده. وليحذر من نسيانه بعد حفظه فقد ورد في الأخبار النبوية ما يزجر عِن ذلك.
والأولى أن يكون له منه في كل يوم ورد راتب لا يخل به، فإن غاب عليه فيوم ويوم، فإن عجز ففي ليلتي الاثنين والجمعة. وقراءة القرآن في كل سبعة أيام ورد حسن. ورد في الحديث عمل به أحمد ابن حنبل، ويقال من قرأ من القرآن في كل سبعة أيام لم ينسه قط. وينبغي له أن يستعمل الرخص في مواضعها عند الحاجة إليها، ووجود سببها ليقتدي به نجيها، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
الثامن:
معاملة الناس بمكارم الأخلاق، من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الناس، والاحتمال منهم والإيثار وترك الاستيثار، والأنصاف، وترك الأستنصاف، وشكر الفضل، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات والتلطف بالفقراء والتحبب إلى الجيران والأقرباء والرفق بالطلبة وإعانتهم وبرهم، كما سيأتي أن شاء الله تعالى، وإذا رأى من لا يقيم صلاته أو طهارته أو شيئاً من الواجبات عليه، أرشده بتلطف ورفق، كما فعل صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد، ومع معاوية بن الحكم في الصلاة.
التاسع:
أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الردية، ويعمره بالأخلاق المرضية، فمن الأخلاق الردية الغل، والحسد، والبغي، والغضب لغير الله تعالى، والغش، والكبر، والرياء والعجب، والسمعة، والبخل، والجبن والبطر والطمع، والفخر، والخيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة فيها، والمداهنَّة والتزين للناس، وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب النفس، والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحمية، والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغيره، والغيبة، والنميمة، والبهتان، والكذب، والفحش في القول، واحتقار الناس ولو كانوا دونه، فالحذر الحذر، من هذه الصفات الخبيثة، والأخلاق الرذيلة، فإنها باب كل شر، بل ير الشر كله. وقد بلي بعض فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات، إلا من عصم الله تعالى ولا سيما الحسد، والعجب والرياء واحتقار الناس. وأدوية هذه الأربعة في كتب الزهد، ومن أنفعها التصفية للإمام يحيى بن حمزة عليه السلام، وكنز الرشاد للإمام عز الدين، ومن أخصرها تكملة الأحكام. ومن أدوية الحسد، الفكر في أنه اعتراض على الله تعالى في حكمته المقتضية تخصيص المحسود بالنعمة، مع أنه محض ضرر على الحاسد يجلب له الغم، وتعب القلب، وتعذيبه بما لا ضرر فيه، على المحسود. ومن أدوية العجب، تذكر أن علمه وفهمه وجودة ذهنه وفصاحته وغير ذلك من النعم، فضل من الله عليه، وأمانة عنده ليرعاها حق رعايتها، وأن العجب بها كفران لنعمتها فيعرضها للزوال، لأن معطيه إياها قادر على سلبها منه في طرفة عين: )و ما ذلك على الله بعِزيز(، )فأمنوا مكر الله(. ومن أدوية الرياء الفكر في أن الخلق كلهم لا يقدرون على نفعه وضرره، فلم يحبط عمله ويضر دينه ويشغل نفسه بمراعاة من لا يملك له في الحقيقة نفعاً ولا ضراً مع أن الله تعالى يطلعهم على نيته، وقبح سريرته. كما صح في الحديث، من سمع سمع الله به، ومن رأيا رأيا الله به. ومن أدوية احتقار الناس، تدبر قوله تعالى: )لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم( الآية، )إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، أن أكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى(. وربما كان المحتقر أطهر عند الله قلباً وأزكى عملاً، وأخلص نية كما قيل: أن اللهّ تعالى أخفى ثلاثة في ثلاثة، وليه في عباده، ورضاه في طاعته، وغضبه في معصيته، مع أن احتقار عباد الله مجرد خسران يورث الذل لفاعله.
وفي خبر للحارث بن معاوية: أنه سأل عمر عن القصص، وأن عمر قال له أخشى عليك أن تقص فترتفع في نفسك، ثم تقص فترتفع في نفسك، حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك. رواه الإمام أحمد، والحارث ابن معاوية وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح.
ومن الأخلاق المرضية دوام التوبة، والإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضى، والقناعة، والزهد، والتوكل، والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، وحسن الخلق، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة، والشفقة على خلق الله والحياء من الله ومن الناس. ومحبة الله تعالى هي الخصلة الجامعة لمحاسن الصفات. وإنما يتحقق بمتابعة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: )قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم(.
العاشر:
دوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد والاجتهاد؛ والمواظبة على وظائف الأوراد عبادة وقراءة وافرة ومطالعة وفكراً وتعليقاً وحفظاً، وتصنيفاً وبحثاً ولا يضيع شيئاً من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة من أكل، أو شرب، أو نوم، أو استراحة لملل، أو أداء حق زوجة، أو زائر، أو تحصيل قوت وغيره، مما يحتاج إليه أولاده أو غيره، مما يتعذر معه الاشتغال، فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة لها. ومن استوى يوماه فهو مغبون.
وقال المزني سمعت الشافعي يقول: سُئل بعض السلف، ما بلغ من اشتغالك بالعلم? قال: هو سلوتي إذا اهتممت، ولذتي إذا سلوت. قال: وأنشدني الشافعي لنفسه:
وما أنا بالغيران مـن دون أهـلـه إذا أنا لم أضح غيوراً على علمي
طبيب فؤادي مذ ثـلاثـين حـجة و صيقل ذهني والمفرج عن همي

وكان بعضهم لا يترك الاشتغال لعروض مرض خفيف، وألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم ويشتغل بقدر الإمكان. وذلك لأن درجة العلم درجة وراثة الأنبياء، ولا تنال المعالي إلا بشق الأنفس. وفي صحيح مسلم عن يحيى بن أبي كثير، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم، وفي الحديث: جفت الجنة بالمكاره وقد قيل:
تريدين إدراك المعالي رخـيصة و لا بد دون الشهد من إبر النحل
وكما قيل:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكـلة لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وقال الشافعي رحمه الله: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلم، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في إدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.
وقال الربيع: لم أر الشافعي آكلاً بنهار ولا نائماً بليل لاشتغاله بالتصنيف، ومع ذلك فلا يحمل نفسه من ذلك فوق طاقتها كيلا تسأم ويمل، فربما نفرت نفرة لا يمكنه تداركها، بل يكون أمره في ذلك قصداً، وكل إنسان أبصر بنفسه.
الحادي عشر:
أن لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن دونه منصباً، أو نسباً، أو سناً، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت. الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون. وأنشد بعض العرب:
و ليس العمى طول السـؤال وإنـمـا تمام العمى طول السكوت على الجهل
وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم.
قال الحميدي وهو تلميذ الشافعي: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث. وقال أحمد بن حنبل، قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى نأخذ به. وصحت رواية جماعة من الصحابة عن التابعين. وأبلغ من ذلك كله، قراءة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أبي وقال: أمرني الله أن أقرا عليك لم يكن الذين كفروا. قالوا: من فوائده أن لا يمتنع الفاضل من الأخذ عن المفضول.

الثاني عشر:
الاشتغال بالتصنَّيف والجمع والتأليف، لكن مع تمام الفضيلة وكمال الأهلية فإنه يطلع على حقائق الفنون ودقائق العلوم للاحتياج إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتنقيب والمراجعة، وهو كما قال الخطيب البغدادي: يثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويجيد البيان، وبكسب جميل الذكر وجزيل الأجر، ويخلده إلى آخر الدهر، كما قيل:
يموَت قوَم فيحيى العلم ذكرهم و الجهل يلحق أمواتاً بأموات
وقال بعضهم: علم الإنسان ولده المخلد.
قال أبو الفتح علي بن محمد البستي:
يقولون ذكر المرء يبقى بنسله و ليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتـي فمن سره نسل فإنا بذا نسلـو
الأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يسبق إلى تصنيفه، بأن لا يكن ثم ما يغني عن تصنيفه في جميع أساليبه، وليتحر إيضاح العبارة في تأليفه معرضاً عن التطويل الممل، والإيجاز المخل، مع إعطاء كل مصنف ما يليق به ولا يخرج تصنيفه من يده قيل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه، ومن الناس من ينكر التصنيف والتأليف في هذا الزمان على من ظهرت أهليته وعرفت معرفته، ولا وجه لهذا الإنكار إلا التنافس من أهل الإعصار ولله در القائل:
قل أن لا يرى المعاصر شيئاً و برى للأوائل التقـديمـا
إن ذاك القديم كـان جـديداً و سيبقى هذا الجديد قديمـا
والمتصرف في مداده وورقه بكتابة ما شاء من أشعار، وحكايات مباحة أو غير ذلك، لا ينكر عليه، فلم إذا تصرف فيه بتسويد ما ينتفع به من علوم الشريعة ينكر ويستهجن، أما من لم يتأهل لذلك فالإنكار عليه متجه لما تضمنه من الجهل وتغرير من يقف على ذلك التصنيف به، ولكونه يضيع زمانه فيما لم يتقنه، ويدع الإتقان الذي هو أحرى به.
الفصل الثاني
في آداب العَالِم في دَرسِه
وفيه اثنا عشر نوعاً:
الأول:
إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الحدث، والجنب، وينظف، وتطيب، ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه، قاصداً بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة. كان مالك رحمه الله إذا جاءه الناس لطلب الحديث، أغتسل، وتطيب، ولبس ثياباً جدداً، ووضع رداءه على رأسه، ثم يجلس على منصبته، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ؛ وقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وروى الخطيب في الجامع من شعر على رضي الله عنه:
أجد الثياب إذا اكتسيت فإنهـا زين الرجال بها تعز وتكرم
دع التواضع في الثياب تحرياً فالله يعلم ما تجن وتـكـتـم
فرثاث ثوبك لا يزيدك زلـفة عند الإله وأنت عبد مجـرم
و بهاء ثوبك لا يضرك بعد أن تخشى الإله وتتقي ما يحـرم
ثم يصلي ركعتي الاستخارة إذا لم يكن وقت كراهة، ويستحب للشخص أن يجعل في كل يوم وقتاً معيناً يصلى فيه صلاة الاستخارة، ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم أن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه وانطق به في حقي وفي حق غيري، وجميع ما يتحرك فيه غيري وينطق به في حقي وحق أهلي وولدي وما ملكت يميني، من ساعتي، هذه إلى مثلها من الغد، خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه وأنطق به في حقي وفي حق غيري، وجميع ما يتحرك فيه غيري في حقي وفي حق أهلي وولدي، وما ملكت يميني من ساعتي هذه إلى مثلها من الغد، شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري فاصرفه عني وأصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به. وهذه الكيفية وإن لم تكن في الأحاديث، فهي موافقة لإطلاق ما جاء في الحث على الاستخارة كحديث: "إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة"، الحديث.
وقد كان أهل الجاهلية يستعملون في أمورهم الأستقسام بالأزلام ونحوها، فعوض صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك ما يتضمن التو حيد، والافتقار، والعبودية، والتوكل، وسؤال الرشد والفلاح، ورد الأمر إلى من بيده أزمة الخيرات وإنجاح الطلبات، ثم ينوي نشر العلم وتعليمه، وبث الفوائد الشرعية، وتبليغ أحكام الله تعالى التي ائتمن عليها، وأمر ببيانها والازدياد من العلم، وإظهار الصواب، والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والسلام على إخوانه من المسلمين والدعاء للسلف الصالحين.
ويحكى عن بعضهم أنه كان يكتب حتى تكل يده، فيضع القلم ثم ينشد:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً على غير ليلى فهو دمع مضيع
وهذا من باب قوله تعالى: )والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يصارعون في الخيرات وهم لها سابقون(. قال الحسن: كانوا يعملون أعمال البر ويحسبون أن لا يتقبل منهم.
الثاني:
إذا خرج من بيته دعا بالدعاء الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم وهو: )اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزِل أو أزَلّ، أو أظلِمَ أو أظلَم، أو أجهَلَ أو يُجهل علي، عزّ جارك وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك(. ثم يقول: )بسم الله وبالله، حسبي الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم ثبت جناني وادر الحق على لساني(، ويديم ذكر اللهّ تعالى إلى أن يصل إلى مجلس التدريس. فإذا وصل إليه سلم على من حضر وصلى ركعتين، أن لم يكن وقت كراهة، فإن كان مسجداً تأكدت مطلقاً، ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة، ويجلس مستقبلاً القبلة لحديث أكرم المجالس ما استقبل القبلة. رواه أبو يعلي والطبراني في الأوسط، عن ابن عمر مرفوعاً والطبراني في الكبير عن ابن عباس نحوه مرفوعاً، ويكون بسكينة، ووقار، وتواضع، وخشوع، متربعاً، أو غير ذلك مما لا يكره من الجلسات، ولا يجلس مقعياً، ولا مستفزاً، ولا رافعاً إحدى رجليه على الأخرى، ولا ماداً رجليه أو إحداهما من غير عذر، ولا متكئاً على يديه إلى جنبه أو وراء ظهره، وليصن بدنه عن الزحف، والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث والتشبيك بهما، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك، فإنه يقلل الهيبة، ويسقط الحشمة، كما قيل من مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به. ولا يدرس في وقت جوعه، أو عطشه، أو همه، أو غضبه، أو نعاسه، أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم، أو حره المزعج، فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر.
الثالث:
أن يجلس بارزاً لجميع الحاضرين موقراً فاضلهم بالعلم والسن، والصلاح والشرف. وترفعهم على حسب تقدمهم، في الإمامة، ويتلطف بالباقين، ويكرمهم بحسن السلام، وطلاقة الوجه ومزيد الاحترام، ولا يكره القيام لأكابر أهل الإسلام على سبيل الإكرام، وقد ورد إكرام العلماء وطلبة العلم في نصوص كثيرة، ويلتفت إلى الحاضرين التفاتاً قسطاً بحسب الحاجة، ويخص من يكلمه أو يسأله، أو يبحث معه على الوجه عند ذلك بمزيد التفات إليه وإقبال عليه، وإن كان صغيراً وضعيفاً، فإن ترك ذلك من أفعال المتجبرين المتكبرين.
الرابع:
أن يقدم على الشروع في البحث والتدريس قراءة شيء من كتأب الله تعالى تبركاً وتيمناً، وكما هي العادة، فإن كان في مدرسة شرط فيها ذلك أتبع الشرط ويدعو عقيب القراءة لنفسه، وللحاضرين، وسائر المسلمين، ثم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمى الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم، ويترضى عن أئمة المسلمين ومشايخه، ويدعو لنفسه وللحاضرين ووالديهم أجمعين. وهو واقف مكانه إن كان في مدرسة أو نحوها جزاء لحسن فعله وتحصيلاً لقصده.
الخامس:
إذا تعددت الدروس قدم الأشرف فالأشرف، والأهم فالأهم: فيقدم تفسير القرآن، ثم الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم المذهب، ثم الخلاف، أو النحو أو الجدل، ويصل في درسه ما ينبغي وصله، ويقف في مواضع الوقف، ومنقطع الكلام. ولا يذكر شبهة في الدين في درس ويؤخر الجواب عنها إلى درس آخر، بل يذكرهما جميعاً أو يدعهما جميعاً. وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلاً يمل ولا يقصر تقصيراً يخل، ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين، ولا يبحث في مقام أو يتكلم في فائدة إلا في موضع ذلك، فلا يقدمه عليه ولا يؤخره إلا لمصلحة تقتضي ذلك وترجحه.
السادس:
أن لا يرفع صوته زائداً على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضاً لا يحصل معه كمال الفائدة. روى الخطيب في الجامع عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أن الله يحب الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع، والأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمع، ولا يسرد الكلام سرداً بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه ليفكر فيه هو وسامعه. وقد روي أن كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان فصلاً يفهمه من سمعه، وإن كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ليفهم عنه، وإذا فرغ من مسالة، أو فصل، سكت قليلاً حتى يتكلم من في نفسه كلام عليه، لأنا سنذكر أن شاء الله في أدب المتعلم أنه لا يقطع على العالم كلامه، فإذا لم يسكت هذه ربما فاتت الفائدة.
السابع:
أن يصون مجلسه عن اللغط، فإن اللغض تحته، وعن رفع الأصوات واختلاف وجهات البحث. قال الربيع: كان الشافعي إذا ناظره إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، ويتلطف في دفع ذلك في مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس. ويذكر الحاضرين بما جاء في كراهة المماراة، لا سيما بعد ظهور الحق، وأن مقصود الاجتماع ظهور الحق وصفاء القلوب، وطلب الفائدة. وأنه لا يليق بأهل العلم تعاطي المنافسة والشحناء لأنها سبب العداوة والبغضاء، بل يجب أن يكون الاجتماع ومقصودة خالصاً لله تعالى ليثمر الفائدة في الدنيا والسعادة في الآخرة، ويتذكر قوله تعالى: )ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون(، فإنه يفهم أن إرادة إبطال الحق أو تحقيق الباطل صفة إجرام فليحذر منه.
الثامن:
أن يزجر من تعدى في بحثه، أو ظهر منه لدد وسوء أدب، أو ترك إنصاف بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره أو ضحك، أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطلب في الحلقة، وسيأتي تفصيل هذا كله- أن شاء الله تعالى- بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه. وينبغي أن يكون له نقيب فطن كيس درب يرتب الحاضرين، ومن يدخل عليهم على قدر منازلهم، ويوقظ النائم، ويشير إلى من ترك ما ينبغي أو فعل ما ينبغي تركه ويأمر بسماع الدروس والإنصات لها.
التاسع:
أن يلازم الِإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيراً، ولا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة، وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده أو تحرير العبارة فيه لحياء أو قصور، ووقع على المعنى عبر عن مراده، وبين وجه إيراده ورد على من رد عليه، ثم يجيب بما عنده أو يطلب ذلك من غيره، ويقصد بكلامه النصح والإرشاد وطلب النجاة، وما يعود نفعه على الكل، ويكلم كل أحد على قدر عقله وفهمه، فيجيب بما يحتمله حال السائل، ويتروى فيما يجيب به، وإذا سئل عما لم يعلمه قال: لا أعلم أو لا أدري فمن العلم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم، أو الله اعلمِ، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله اعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. وعن بعضهم: لا أدري نصف العلم.
وعن ابن عباس: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها. واعلم أن قول المسؤول ما أدري لا يضيع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، لأن المتمكن لا يضره عدم معرفة بعض المسائل، بل يرفعه قوله لا أدري، لأنه دليل على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته.
وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته، لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، ولا يخاف من سقوطه من نظر رب العالمين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشتهر خطؤه بين الناس، فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه. وقد أدب الله تعالى العلماء بقضية موسى مع الخضر عليهما السلام، حين لم يرد موسى العلم إلى الله عز وجل، لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك ?
العاشر:
أن يتودد لغريب حضر عنده ويبسط له لينشرح صدره، فإن للقادم دهشة، ولا يكثر الالتفات والنظر إليه استغراباً له، فإن ذلك يخجله، وإذا أقيل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة امسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو مقصودها، وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه، ثم يعيدها أو يتم تلك البقية كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.
الحادي عشر:
جرت العادة أن يقول المدرس عند ختم كل درس: والله أعلم، كذلك يكتب المفتي بعد كتابة الجواب، لكن الأولى أن يقال قبل ذلك كلام يشعر بختم الدرس كقوله: وهذا آخره أو ما بعده يأتي أن شاء الله تعالى ونحو ذلك، ليكون قوله والله أعلم خالصاً لذكر الله تعالى ولقصد معناه. ولهذا ينبغي أن يستفتح كل درس ببسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، كما يستفتح جواب الفتيا بذلك ليكون ذاكراً لله تعاطا في بدأته وخاتمته.
والأولى للمدرس أن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة فإن فيه فوائد وآداباً له ولهم، منها عدم مزاحمتهم، ومنها أن كان في نفس أحدهم بقايا سؤال سأله، ومنها عدم ركوبه بينهم أن كان يركب وغير ذلك. ويستحب إذا قام أن يدعو بما ورد به الحديث، سبحانك اللهّ، اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الثاني عشر:
أن لا ينتصب للدرس إذا لم يكن أهلاً له، ولا يذكر الدرس من علم لا يعرفه، فإن ذلك لعباً في الدين وازدراء بين الناس. قال النبي صلى اللهّ عليه وعلى آله وسلم: المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوب زور، وعن الشبلي: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه. وعن أبي حنيفة رحمه الله: من طلب الرياسة في غير حينه، لم يزل في ذل ما بقي، واللبيب من صان نفسه عن تعرضها لما يعد فيه ناقصاً وبتعاطيه ظالماً وبإصراره فاسقاً، فإنه متى لم يكن أهلاً استهزئ بحاله وانتقص به، ولا يرضى ذلك لنفسه أريب ولا يتعاطاه مع الغنا عنه لبيب. وأقل مفاسد ذلك أن الحاضرين يفقدون الإنصاف لعدم من يرجعون إليه عند الاختلاف، لأن رب الصدر لا يعرف المصيب فينصره، أو المخطئ فيزجره. وقيل لأبي حنيفة رضي الله عنه: في المسجد حلقة ينظرون في الفقه؛ فقال الَهُمْ رأس? قالوا: لا، قال: لا يفقه هؤلاء أبداً. ولبعضهم في تدريس من لا يصلح:
تصدر للتدريس كل مـهـوس جهول ليسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثـلـوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس
الفصل الثالث
في آداب العَالِم مع طَلَبتِه
وهو أربعة عشر نوعاً: الأول: أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم، وإحياء الشرع، ودوام ظهور الحق، وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعدهم وبركه دعائهم له، وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم، بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبينهم، وعداده في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه، فإن تعليمه العلم من أهم أمور الدين، وأعلى درجات المؤمنين على ما سبق إيضاحه. أولاً: نعوذ بالله من قواطعه ومكدراته وموجبات حرمانه وفواته.
الثاني: أن لا يمتنع من تعليم الطالب لعدم خلوص نيته، فإنه يرجى له حسن النية، وربما عسر في كثير من المبتدين، تصحيح النية لضعف نفوسهم، وقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية، والامتناع من تعليمهم، يؤدي إلى تفويت كثير من العلم، مع أنه يرجى ببركة العلم تصحيحها إذا انس بالعلم. وقد قالوا: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، معناه كانت عاقبته أن صار لله وينبغي للشيخ أن يحرض المبتدئ على حسن النية بتدريج، وبعلمه بعد أنسه به أنه ببركة حسن النية ينال الرتبة العالية من العلم، والعمل، أو اللطف، وأنواع الحكم، وتنوير القلب، وانشراح الصدر، وتوفيق العزم، وإصابة الحق، وحسن الحال، والتسديد في المقال، وعلو الدرجات.
الثالث: أن يرغبه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله تعالى للعلماء من منازل الكرامات، وأنهم ورثة الأنبياء، وعلى منابر من نور، ونحو ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات والأخبار، والآثار، والأشعار. ويرغبه مع ذلك بتدريج على ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور، وقدر الكفاية من الدنيا، والقناعة بذلك عن شغل القلب بالتعلق بها، وغلبة الفكر وتفريق الهم بسببها، فإن انصراف القلب عن تعلق الأطماع بالدنيا، والإكثار منها والتأسف على فائتها، أجمع لهمه، وأروح ليسره، وأشرف لنفسه، وأعلى لمكانته وأقل لحساده وأجدر بحفظ العلم وازدياده. ولذلك قل من نال من العلم نصيباً وافراً إلا من كان في مبادئ تحصيله على ما ذكرت من الفقر والقناعة والإعراض عن طلب الدنيا وعرضها الفاني. وسيأتي في أدب المتعلم أكثر من هذا أن شاء الله تعالى.
الرابع: أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه، كما جاء في الحديث، ويكره له ما يكره لنفسه. وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به اعز أولاده من الحنو والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه ونقص لا يكاد الإنسان يخلو عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان. ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما يصدر منه، بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة، فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم ذلك إلا بصريحها أتي به وراعى التدريج في التلطف، ويؤديه بالآداب السنية ويحرضه على الأخلاق المرضية، ويوصيه بالأمور العرفية الموافقة للأوضاع الشرعية.
الخامس: أن يسمح له بسهولة الإلقاء في تعليمه، وحسن التلطف في تفهيمه، لا سيما إذا كان أهلاً لذلك، بحسن أدبه وجودة طلبه ويحرضه على ضبط الفوائد وحفظ النوادر والفرائد، ولا يدخر عنه من أنواع العلوم، وما يسأله عنه وهو أهل له، لأن ذلك ربما يوحش الصدر، وينفر القلب، ويؤرث الو حشة، وكذلك لا يلقي إليه ما لم يتأهل له، لأن ذلك يبدد ذهنه ويعوق فهمه، فإن سأله الطالب شيئاً من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وإن منعه إياه شفقة عليه ولطفاً به، لا يخل عليه ثم يرغبه عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل، ليتأهل لذلك وغيره.
السادس: أن يحرض على تعليمه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه، أو بسط لا يضبطه حفظه، ويوضح لمتوقف الذهن العبارة، ويحتسب إعادة الشرح له، وتكراره، ويبدأ بتصوير المسائل وتوضيحها بالأمثلة وذكر الدلائل، ويقتصر على تصوير المسألة وتمثيلها لمن لم يتأهل لفهم مأخذها ودليلها، وبذكر الأدلة والمآخذ لمحتملها، ويبين له معاني أسرار حكمها وعللها، وما يتعلق بتلك المسألة، من فرع وأصل، ومن وهم فيها في حكم، أو تخريج، أو نقل بعبارة حسنة لم لأداء بعيدة عن تنقيص أحد من العلماء. ولا يمتنع من ذكر لفظة يستحيا من ذكرها عادة إذا احتيج إليها، ولم يتم التوضيح إلا بذكرها، فإن كانت الكناية تفيد معناها، وتحصيل مقتضاها تحصيلاً بيناً لم يصرح بذكره، بل يكتفي بالكتابة عِنها، وكذلك إذا كان في المجلس من لا يليق ذكرها بحضوره لحيائه أو لخفائه، فيكنى عن تلك اللفظة، ولهذه المعاني واختلاف الحال ورد في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم التصريح تارة والكناية أخرى.
السابع: إذا فرغ الشيخ من شرح درس، فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة، يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن طهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف في إعادته له، والمعنى بطرح المسائل أن الطالب ربما استحيا من قوله: لم أفهم، إما لرفع كلفة الإعادة عن الشيخ، أو لضيق الوقت، أو حياء من الحاضرين، أو كيلا تتأخر قراءتهم بسببه. وقيل لا ينبغي للشيخ أن يقول للطالب: هل فهمت? إلا إذا أمن من قوله: نعم، قبل أن يفهم، فإن لم يأمن من كذبه لحياء أو غيره، فلا يسأله عن فهمه، لأنه ربما وقع في الكذب بقوله: نعم، لما قلناه من الأسباب. وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سيأتي أن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذهانهم، ويرسخ في أفهامهم، ولأنه يحثهم على استعمال الفكر، ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق.
الثامن: أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات، ويمتحن ضبطهم لما قدم لمم من القواعد المهمة، والمسائل الغريبة، ويختبرهم بمسائل تبنى على أصل قرره أو دليل ذكره، فمن رآه مصيباً في الجواب ولم يخف عليه شدة الإعجاب، شكره وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مقصراً ولم يخف نفوره، عنفه على قصوره، وحرضه على علو الهمة، ونيل المنزلة في طلب العلم، لا سيما إذا كان ممن يزيده التعنيف نشاطاً، والشكر انبساطاً، ويعيد ما يقتضي الحال إعادته ليفهمه الطالب فهماً سخاً التاسع: إذا سلك الطالب فوق ما يقتضيه حاله، أو تحملته طاقته، وخاف الشيخ ضجره، أوصاه بالرفق بنفسه، وذكره بقول النبيِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، ونحو ذلك مما يحمله على الأناة والاقتصار في الاجتهاد، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة، أو ضجر، أو مبادئ ذلك، أمره بالراحة وتخفيف الاشتغال، ولا يشير على الطالب بتعلم ما لا يحتمله فهمه أو سنه، ولا بكتاب يقصر ذهنه عن فهمه، فإن استشار الشيخ من لا يعرف حاله في الفهم والحفظ في قراءة فن أو كتاب، لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه، ويعلم حاله، فإن لم يحتمل الحال التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلاً، وفهمه جيداً، نقله إلى كتاب يليق بذهنه، وإلا تركه، وذلك لأن نقل الطالب إلى ما يدل نقله إليه على جودة ذهنه يزيد انبساطه، وإلى ما يدل على قصوره يقلل نشاطه، ولا يمكن الطالب من الاشتغال في فنين أو اكثر، إذا لم يضبطهما، بل يقدم الأهم، فالأهم، كما سنذكره أن شاء الله تعالى، فإذا علم أو غلب على ظنه أنه لا يفلح في فن، أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه.
العاشر: أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرم، إما مطلقاً كتقديم المباشرة على السبب في الضمان، أو غالباً كاليمين على المدعى عليه، إذا لم تكن بينة، ونحو ذلك من القواعد، وكذلك كل أصل وما ينبني عليه من كل فن يحتاج إليه من علمي التفسير والحديث، وأبواب أصول الدين والفقه، والنحو والتصريف واللغة، ونحو ذلك إما بقراءة كتاب من الفن أو بتدريج وهذا كله إذا كان الشيخ عارفاً بتلك الفنون، وإلا فلا يتعرض لها، بل يقتصر على ما يتقنه منها، ومن ذلك ما لا يسع الفاضل جهله كأسماع المشهورين من الصحابة، والتابعين وأئمة المسلمين، وعلماء أهل البيت المطهرين العاملين، وأهل الزهد والصلاح من الفقهاء المحققين، وما يستفاد من محاسن آدابهم، ونوادر أحوالهم، فيحصل له مع الطول فوائد كثيرة.
الحادي عشر: أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في موت، واعتناء مع تساويهم في الصفات من سن، أو فضيلة، أو تحصيل، أو ديانة، فإن ذلك ربما يو حش الصدور وشفر القلوب، فإن كان لأحدهم فضيلة، فأظهر إكرامه لأجلها فلا بأس بذلك، لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات، ولا يقدم أحداً في نوبة الآخر، إلا إذا رأى في ذلك مصلحة تزيد على مصلحة مراعاة النوبة، أو سمح الطالب بذلك كما سيأتي إن شاء الله وينبغي أن يتودد لحاضرهم ويذكر غائبهم بخير وحسن ثناء، وينبغي أن يستعلم عن أسمائهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم، ويكثر الدعاء لهم.
الثاني عشر: أن يرقب أحوال الطلبة في آدابهم وهديهم وأخلاقهم باطناً وظاهراً، فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه، أو ما يؤدي إلى فساد حال، أو ترك اشتغال، أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره، أو كثرة كلام بغير توجيه ولا فائدة، ومعاشرة من لا تليق معاشرته، أو نحو ذلك مما سيأتي أن شاء الله تعالى في آداب المتعلم، عرض الشيخ بالنهي عن ذلك بحضور من صدر منه ذلك، غير معرض به، ولا معين له، فإن لم ينته نهاه عن ذلك سراً، ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها، فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهراً، ويغلظ القول عليه أن اقتضاه الحال، ليزجر هو وغيره، ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، وكذا يتعاهد ما يعامل به بعضهم بعضاً من إفشاء السلام، وحسن التخاطب في الكلام، والتحابب، والتعاون على البر والتقوى، وعلى ما هم بصدده.
الثالث عشر: أن يسعى في مصالح الطلبة وجمع قلوبهم، ومساعدتهم بما تيسر من جاه أو مال عند قدرته على ذلك، وسلامة دينه وعدم ضرره، فإن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه حسابه يوم القيامة، ولا سيما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم، وإذا غاب بعض الطلبة، أو ملازمي الحلقة زائداً على العادة، سأل عنه فإن لم يخبر عنه بشيء، أرسل إليه وقصد منزله بنفسه، وهو أفضل، فإن كان مريضاً عاده، وإن كان في غمّ خفض عليه، أو في أمر يحتاج إليه فيه أعانه، وإن كان مسافراً يفقد أهله ومن يتعلق به، وسأل عنهم ويعرض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن لم يكن في شيء من ذلك تودد إليه ودعا له. واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، واقرب أهله إليه.
الرابع عشر: أن يتواضع مع الطالب وكل مسترشد، إذا قام بما يجب عليه من حقوَق الله وحقوقه، ويخفض له جناحه، ويلين له جانبه، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: )و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين(. وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا، وما تواضع أحد إلا رفعه الله. وهذا في التواضع، لمطلق الناس، فكيف من له حق الصحبة وحرمة التردد، وصدق التودد، وشرف الطلب، فهم كأولاده. وفي الحديث: "لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه".
وعن الفضل: "أن الله يحب العالم المتواضع ويبغض الجبار، ومن تواضع لله ورثه الله الحكمة". ويخاطب كلا منهم بكنيته ونحوها، من أحب الأسماء إليه وما فيه تعظيم له وتوَقير. وعن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكني أصحابه إكراماً لهم. وينبغي أن يرحب بالطلبة إذا لقيهم وعند إقبالهم عليه، ويكرمهم إذا جلسوا إليه ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم، ويعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر، وحسن المودة، ويزيد في ذلك لمن يرجى فلاحه ويظهر صلاحه ويضع الحكمة في موضعها.
الفصل الرابع
في آداب المتعلم في نفسه
وهي عشرة أنواع: الأول: أن يطهر قلبه من كل غش، ودنس، وغل، وحسد، وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم كما قال بعضهم: صلاة السر، وعبادة القلب، وقربة الباطن، فكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديها. وقالوا: يطيب القلب للعلم كما تطيب الأرض للزرع، فإذا طيب العلم ظهرت بركته، ونما كما ينمو زرعها، ويزكو إذا طيبت.
وفي الحديث أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب وقال سهل: "حرام على قلب أن يدخله نوَر وفيه شيء مما يكره الله عز وجل". الثاني: حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله عز وجل والعمل به، وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله تعالى يوم لقائه، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه، وعظم فضله، قال سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد من نيتي، ولا يقصد به أغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة، والجاه، والمال، ومباهاة الأقران وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس، ونحو ذلك فليستبدل الأدنى بالذي هو خير.
والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب، فإن خلصت فيه النية قبل وزكا ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما كان ذلك سبباً في فوات تلك المقاصد فلا ينالها فيخيب قصده، ويضيع سعيه.
الثالث: أن يبادر شبابه وأوقات عمره فيصرفها إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأمل فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها. ويقطع ما يقدر على قطعه من العلايق الشاغلة والعوايق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل، فإنها كقواطع الطريق. ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن تقليلاً للشواغل، لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ولذلك يقال العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.
الرابع: أن يقنع من القوت بما تيسر، وإن كان يسيراً، ومن اللباس بما ستر مثله، وإن كان خلقاً بالصبر على ضيق العيش، ينال سعة العلم ويجمع شمل القلب عن متفرقات الآمال، فتفجر فيه ينابيع الحكم. وعن الشافعي رحمه الله: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح. وقال: لا يدرك العلم إلا بالصبر على الذل، ومن آثر طلب العلم على الاحتراف فإن الله يعوضه ويأتيه بالرزق من حيث لا يحتسب. فعن زياد بن حارث الصدائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: من طلب العلم تكفل الله برزقه. أخرجه الخطيب في الجامع الخامس: إن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة لها، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود الأماكن للحفظ كل مكان بعيد عن الملهيات، كالنبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات، لأنها تمنع من خلو القلب غالباً.
السادس: من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملال، أكل القدر اليسير من الحلال. قال الشافعي رحمه الله: ما شبعت منذ ست عشرة سنة، وسبب ذلك، إن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم، والبلادة، وقصور الذهن، وفتور الحواس، وكسل الجسم، هذا مع ما فيه من الكراهة الشرعية، والتعرض لخطر الأسقام البدنية كما قال:
فإن الداء أكثـر مـا تـراه يكون من الطعام أو الشراب
ومن رام الفلاح في العلم وتحصيل البغية منه، مع كثرة الأكل والشرب والنوم، فقد رام مستحيلاً في العادة. والأولى أن يكون أكثر ما يؤخذ من الطعام، ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال، ما ملأ ابن آدم وعاء، شراً من بطن، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه، رواه الترمذي، فإن زاد فهو إسراف. وقد قال تعالى: )كلوا واشربوا ولا تسرفوا(. قال بعض العلماء: جمع الله الطب كله بهذه الكلمة.
السابع: إن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله ليستثير قلبه، ويصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به ولا يقنع لنفسه بظاهر الحل شرعاً، مهما أمكنه التورع، ولم تلجه حاجة، بل يطلب الرتبة العالية، ويقتدي بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون بجوازه، وأحق من اقتدى به في ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حيث لم يأكل التمرة التي وجدها في الطريق خشية إن تكون من الصدقة، مع بعد كونها منها، ولأن أهل العلم يقتدي بهم ويؤخذ عنهم، فإذا لم يستعملوا الورع فمن يستعمله ? الثامن: إن يقلل استعمال المطاعم التي هي من أسباب البلادة، كالتفاح الحامض، والباقلا، وشرب الخل، وكذلك ما يكثر استعماله البلغم المبعد للذهن، ككثرة الألبان والسمك ونحو ذلك، ويجتنب ما يورث النسيان بالخاصة كأكل اثر سور الفار، وقراءة ألواح القبور، والدخول بين جملين مقطورين، وإلقاء القمل حية، ونحو ذلك من المجريات.
التاسع: إن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عِلى ثمان ساعات، وهي ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل من ذلك فعل، ولا بأس إن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا أكل شيئاً من ذلك، أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه، وكان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة، ويتمازحون بما لا يضرهم في دين ولا عرض. ويتجنب ما يعاب من الهزل والبسط بالفعل وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا والضحك الفاحش بالقهقهة.
العاشر: إن يترك العشرة، فإن تركها من أهم ما ينبغي لطلب العلم، ولا سيما لغير الجنس، وخصوصاً لمن كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع شر آفة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب المال والعرض إن كانت لغير أهل، وذهاب الدين إن كانت لغير أهله. والذي ينبغي لطالب العلم إن لا يخالط إلا من يفيد أو يستفيد منه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أغد عالماً أو متعلماً، ولا تكن الثالث فتهلك. فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه، فليتلطف في قطع عشرته في أوائل الأمر قبل تمكنها، فإن الأمور إذا تمكنت عسرت إزالتها، ومن الجاري على ألسنة الفقهاء الدفع اسهل من الرفع، فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحاً، ديناً، تقياً، ورعأً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، فإن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، أو ضجر صبره، ومما يروى عن علي رضي الله عنه:
لا تصحب أخا الجهل و إيَّاك وإيَّاه
فكم من جاهل أردى حليماً حـين آخـاه
يقاس المرء بالمـرء إذا ما هو مـاشـاه
ولبعضهم:
إن أخاك الصدق من كان معك و من يضر نفسه لينفـعـك
و من إذا ريب زمان صدعك شتت شمل نفسه ليجمـعـك
الفصل الخامس
في آداب المتعلم مع شيخه وقدوته
وما يجب عليه من عظيم حرمته وذلك ثلاثة عشر نوعاً: الأول: ينبغي للطالب إن يقدم النظر،و يستخير الله فيمن يأخذ عنه العلم، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، ويتحرى في كونه ممن كملت أهليته وتحققت شفقته، وطهرت مروءته وعرفت عفته، واشتهرت صيالته، وكان احسن تعليماً وأجور تفهيماً، ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص ورع أو دين أو عدم خلق جميل، وعن السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، وليحذر من التقيد بالمشهورين وترك الأخذ عن الخاملين، فقد عده الغزالي وغيره من الكبر في العلم، لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه، فإنه يهرب من مخافة الجهل كما يهرب من الأسد، والهارب من الأسد لا يأنف من دلالة من يدله على الخلاص، كائناً من كان.
وذكر أبو نعيم في الحلية، إن زينَ العابدين علي بن الحسين عليهما السلام كان يذهب إلى زيد بن أسلم، فيجلس إليه، فقيل له: أنت سيد الناس وأفضلهم تذهب إلى هذا العبد فتجلس إليه، فقال: العلم يُتَبع حيث كان ومن كان. فإن كان الخامل ممن ترجى بركته، كان النفع به أعم والتحصيل من جهته أتم. وإذا سيرت أحوال السلف والخلف، لم تجد النفع يحصل غالباً، والفلاح يدرك طالباً إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر، والفلاح الاشتغال به أكثر. وليجتهد على إن يكون الشيخ ممن له في العلوم الشرعية تمام اطلاع، وله ممن يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ من بطون الأوراق. لمال الشافعي، من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام، وكان بعضهم يقول: من أعظم البلية مشيخة الصحيفة، أي الذين يتعلمون من الصحف.
الثاني: إن ينقاد لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاوره فجما يقصده، ويتحرى رضاه فجما يعتمده، ويبالغ في حرمته ويتقرب إلى الله بخدمته، ويعلم إن ذله لشيخه عز، وخضوعه فخر، وتواضعه له رفعة. أخذ ابن عباس رضي الله عنه، مع جلالته وقرابته من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلو مرتبته، بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، وهو ممن أخذ عنه ابن عباس العلم، وقال: هكذا أمرنا إن نفعل بعلمائنا، وقد سبق ما رواه الطبراني في الأوسط، عن أبي هريرة مرفوعاً، تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة وتواضعوا لمن تعلمون منه، ولا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده، وليدع رأيه، فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه.
الثالث: إن ينظره بعين الإجلال ويعتقد فيه درجة الكمال، ويوقره وبعظمه، فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، قال بعضهم حسن الأدب ترجمان العقل ومراعاة الأدب، فيما بين المحققين مقدم على غيره، ألا ترى كيف مدح الله أهله وشرف محلهم، بقوله: )إن الذين يغضون أصواتهم عن رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة واجر عظيم(. وينبغي إن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بعد، بل يقول: يا سيدنا ولا مولانا ونحو ذلك، وما تقولون في كذا، وما رأيكم في كذا، وشبه ذلك ولا يسميه في غيبته باسمه إلا مقروناً بما يشعر بتعظيمه، نحوَ قال الشيخ الأستاذ، أو قال شيخنا، أو قال مولانا ونحو ذلك.
الرابع: إن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، فعن أبي إمامة الباهلي مرفوعاً: من علًم عبداً آية من كتاب الله فهو مولاه. ومن ذلك، إن يعظم حضرته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس، وينبغي أن يدعو له مدة حياته، ويرعى ذريته وأقاربه وأولاده بعد وفاته، ويتعاهد زيارة قبره، والاستغفار والصدقة عنه، ويسلك في الهدى والسمت مسلكه، ويتأدب بآدابه، ولا يدع الاقتداء به.
الخامس: إن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر إن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار، والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه، ويجعل العتب فيه إليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
وعن بعض السلف: من لم، يصبر على ذل التعليم، بقي عمره في عملية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة. وعن ابن عِباس رضي الله عنهما: ذللت طالباً فعززت مطلوباً. وقال أبو يوسف: خمسة يجب على الناس مداراتهم، وعد منهم العالم، ليقتبس من علمهْ ولبعضهم:
اصبر لدائك إن جفوت طبـيبـه و أصبر لجهلك إن جفوت معلما
السادس: إن يشكر الشيخ على توفيقه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه، أو قصور يعانيه، أو غير ذلك مما في إيقافه عليه وتوبيخه وإرشاده وإصلاحه، ويعد ذلك من الشيخ من نعم الله تعالى عليه، باعتناء الشيخ به ونظره إليه، فإن ذلك أميل لقلب الشيخ وأبعث على الاعتناء بمصالحه، وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب، أو نقيصة صدرت منه، وكان يعرفه من قبل، فلا يظهر أنه كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به، وإلا تركه.
السابع: إن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا بالاستئذان، سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره. ولا يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به، فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو الحلقة، وليكن طرق الباب خفيفاً بآداب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلاً، قليلاً، فإن كان الموضع بعيداً عن الباب أو الحلقة، فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يقدم أفضلهم وأسنهم بالدخول والسلام عليه، ثم يسلم عليه الأفضل فالأفضل. وينبغي إن يدخل على الشيخ كامل الهيئة، متطهر البدن والثياب، نظيفهما، بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر، وقطع رائحة كريهة، لا سيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ذكر واجتماع في عبادة0 ومتى دخل على الشيخ في غير المجلس العام، وعنده من يتحدث معه فيسكتوا من الحديث، أو دخل والشيخ وحده يصلي، أو يذكر، أو يكتب أو يطالع، فترك ذلك أو سكت ولم يبدأه بكلام أو بسط حديث، فيسلم ويخرج سريعاً، إلا إن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا إن يأمره بذلك. وينبغي إن يدخل على الشيخ أو يجلس عنده وقلبه فارغ من الشواغل له، وذهنه صاف لا في حال نعاس أو غضب أو جوع شديد أو عطش أو نحو ذلك، لينشرح صدره لما يقال، ويعي ما يسمع.
وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده جالساً، انتظره كيلا يفوت على نفسه درسه، فإن كل درس يفوت لا عوض له. ولا يطلب من الشيخ قراءة في وقت يشق عليه فيه، أو لم تجر عادته بالإقراء فيه، ولا يخترع عليه وقتاً خاصاً به دون غيره، وإن كان رئيساً أو كبيراً، لما فيه من الترفع والحمق على الشيخ والطلبة والعلم، فإن بدأه الشيخ بوقت معين أو خاص لعذر عائق له عن الحضور مع الجماعة أو لمصلحة رآها الشيخ فلا بأس بذلك.
الثامن: إن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب، كما يجلس الصبي بين يدي المقرئ، أو متربعاً بتواضع وخضوع وسكون، وخشوع، ويصغي إلى الشيخ ناظراً إليه، ويقبل بكليته عليه، متعقلاً لقوله، بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام مرة ثانية، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينفض كمه ولا يحسر عن ذراعيه، ولا يعبث بيديه أو رجليه، ولا يضع يده على لحيته أو فمه، أو يعبث بها في أنفه، أو يستخرج بها منه شيئاً، ولا يفتح فاه ولا يقرع سنه، ولا يضرب الأرض براحته، أو يخط عليها بأصابعه، ولا يشبك يديه أو يعبث بإزاره. ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط، أو مخدة أو يجعل يده عليها أو نحو ذلك، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه وما فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب، ولا يضحك لغير عجب ولا لعجب دون الشيخ، فإن غلبه تبسم، تبسم من غير صوت، ولا يكثر التنحنح من غير حاجة ولا يبصق ولا يتنخع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه، بل يأخذها من فيه بمنديل أو خرقة أو طرف ثوب، ويتعاهد تغطية أقدامه وسكون يديه عند بحثه، أو مذاكرته، وإذا عطر خفض صوته جهده، وستر وجهه بمنديل أو نحوه، أو إذا تثاءب ستر فاه بعد رده جهده.
وعن علي رضي الله عنه قال: "من حق العالم عليك إن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية وإن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك، ولا تغمزن بعينك عنده، ولا تقولن: قال فلان: خلاف قولك، ولا تغتابن عنده أحداً ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك إن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسار في مجلسه ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها شيء، وإن المؤمن العالم لأعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالم، انثلمت في الِإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يو م القيامة(. أخرجه الخطيب في الجامع، ولقد جمع رضي الله عنه في هذه الوَصعية ما فيه مقنع.
قال بعضهم: ومن تعظيم الشيخ، إن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه أو وسادته، وإن أمره الشيخ بذلك فلا يفعله إلا إذا جزم عليه جزماً يشق عليه مخالفته، فلا بأس بامتثال أمره في تلك الحال، ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب.
السابع: إن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان، ولا يقول له لم ولا نسلم، ولا من يقل هذا، ولا أين موضعه ? وشبه ذلك، فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك في مجلس آخر على سبيل الاستفادة، وإذا ذكرت شيئاً لا تقل هكذا قلت، أو خطر لي أو سمعت أو هكذا قال فلان. وهكذا لا تقول: قال فلان خلاف هذا، أو روى فلان خلافه، أو هذا غير صحيح أو نحو ذلك. وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل، ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهواً، فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر عليه، لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيباً لغفلة، أو سهو، أو قصور نظر في تلك الحال، فليس بمعصوم وليتحفظ من مخاطبة الشيخ بما يعتاده بعض الناس في كلامه ولا يليق خطابه به، مثل إيش بك، وفهمت، وسمعت، وتدري، ويا إنسان ونحو ذلك. وكذلك لا يحكي له ما خوطب به غيره، مما لا يليق خطاب الشيخ به، وإن كان حاكياً مثل قال فلان لفلان، أنت قليل البر وما عندك خير وشبه ذلك، بل يقول: إذا أراد الحكاية ما جرت العادة بالكناية به، مثل، قال فلان لفلان: إلا بعد قليل البر وما عند البعيد خير وشبه ذلك. ويتحفظ من مفاجأة الشيِخ بصورة رد عليه، فإنه يقع ممن لا يحسن الأدب من الناس كثيراً مثل، إن يقول له الشيخ: مرادك في سؤالك كذا، أو خطر لك كذا، فيقول: لا، وما هذا مرادي أو ما خطر لي هذا وشبه ذلك. بل طريقه أن يعيد كلامه ولا يقول الذي قلته، والذي قصدته ليضمنه الرد عليه، وكذلك ينبغي أن يقول في موضع، لم ولا نعلم، فإن قيل لنا كذا أو فإن منعنا ذلك، أو فإن سئلنا عن كذا أو فإن أورد كذا وشبه ذلك ليكون سائلاً له بحسن أدب ولطف عبارة.
العاشر: إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مساًلة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية، أو ينشد شعراً وهو يحفظ ذلك، أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال كأنه لم يسمعه قط، قال عطا: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً،و عنه قال: إن الشاب ليتحدث فأسمع له كأن لم اسمعه، ولقد سمعته قبل إن يولد، فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له، فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل لا لما فيه من الكذب، بل يقول أحب إن أستفيده من الشيخ، أو إن اسمعه منه، أو هو من جهتكم أصح، ولا يكرر السؤال لما يعلمه ولا يشغل ذهنه بفكر أو حديث، ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة ادب، بل يكون مصغياً لكلامه حاضر الذهن لما سمعه من أول مرة، فإن لم يسمع كلام الشيخ لبعده أو لم يفهمه مع الإصغاء والإقبال عليه، فله إن يسأل الشيخ الإعادة والتفهيم بعد بيان عذره.
الحادي عشر: إن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه، أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه قبل الشيخ، وينبغي إن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ من كلامه ثم يتكلم ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه، أو مع جماعة المجلس.
وفي حديث هند بن أبي هالة، في وصفه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا.
الثاني عشر: إذا ناوله الشيخ شيئاً تناوله باليمين، وإن ناوله شيئاً ناوله باليمين، فإن كان ورقة يقرؤها كفتيا، أو قصة، أو مكتوب شرعي، ونحو ذلك، نشرها ثم دفعها إليه. ولا يدفعها مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك، وإذا ناوله الشيخ كتاباً ناوله إياه مهيئاً لفتحه والقراءة فيه من غير احتياج إلى إدارته، فإن كان النظر في موضع معين فليكن مفتوحاً، كذلك ويعين له المكان، ولا يحذف إليه الشيء حذفاً من كتاب أو ورقة أو غير ذلك، ولا يمد يديه إلا إذا كان بعيداً ولا يحوج الشيخ إلى مد يده أيضاً لأخذ منه، أو إعطاء، بل يقوم إليه قائماً ولا يزحف زحفاً، وإذا جلس بين يديه الناس لذلك فلا يقرب منه قرباً كثيراً ينسب فيه إلى سوء أدب ولا يضع رجله أو يده أو شيئاً من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته، ولا يشير إليه بيده أو يقربها من وجهه أو صدره أو يمس بها شيئاً من بدنه أو ثيابه، وإذا ناوله قلماً ليكتب به فليمده قبل إعطائه إياه وإن وضع بين يديه دواة فلتكن مفتوحة الأغطية مهيأة للكتابة منها، وإن ناوله سكيناً كانت عرضاً وحد شفرتها إلى جهته، قابضاً على طرف النصاب مما يلي النصل، جاعلاً نصابها على يمين الآخذ، ولا يأنف من خدمته. وقد قيل: أربعة لا يأنف الشريف منهم وإن كان أميراً، قيامه من مجلسه لأبيه وخدمته للعالم يتعلم منه والسؤال عما لا يعلمه وخدمته للضيف.
الثالث عشر: إذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل ووراءه بالنهار، إلا إن يقتضي الحال خلاف ذلك، ويتقدم عليه في المواطن المجهولة الحال لوحل أو نحوه، ويعرف الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به، وإذا صادف الشيخ بدأه بالسلام، ويقصده إن كان بعيداً ولا يناديه، ولا يسلم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب ويتقدم ثم يسلم عليه، ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ، هذا خطأ ولا هذا ليس برأي، بل يحسن خطاه في الرد إلى الصواب، كقوله: يظهر إن المصلحة في كذا، ولا يقول الرأي عندي كذا، وشبه ذلك.
الفصل السادس
في آداب المتعلم في درسه
وقراءته في الحلقة وما يعتمد فيها الشيخ والرفقة
وهو ثلاثة عشر نوعاً: الأول: إن يبتدئ أولا بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظاً ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها. ثم يحفظ في كل فن مختصراً، يجمع فيه بين طرفيه من الفقه والحديث وعلومه والأصولين والنحو والتصريف ولا يشتغل بذلك كله عن دراسة القرآن وتعهده وملازمة وردٍ منه كل يوم أو أيام أو جمعة. وليحذر من نسيانه بعد حفظه، فقد ورد حديث يزجر عنه، ويشتغل بشرح تلك المحفوظات على المشايخ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب ابتداء، بل يعتمد في كل فن ما هو احسن تعليماً له، واكثر تحقيقاً فيه، وتحصيلاً منه، واخبرهم بالكتاب الذي قراه، وذلك بعد مراعاة الصفات المتقدمة من الدين، والصلاح والشفقة وغيرها، فإن كان شيخه لا يجد من قرابته على غيره، فلا بأس بذلك، وإلا راعى قلب شيخه، إن كأن أرجأهم نفعاً، لأنه أنفع له وأجمع لقلبه عليه، وليأخذ من الحفظ ما يمكنه ويطيقه حاله، من غير إكثار يمل ولا تقصير يخل بجودة التحصيل.
الثاني: إن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء، وبين الناس مطلقاً في العقليات والسممعيات، فإنه يحير الذهن ويدهش العقل، بل يتقن أولاً كتاباً واحداً في فن واحد، أو كتباً في فنون إن احتمل ذلك على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه، فإن كانت طريقة شيخه نقل المذاهب والاختلاف، ولم يكن له رأي واحد. قال الغزالي، فليحذر منه فإن ضرره أكثر من النفع به، وكذلك يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرأه أو الفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه، وكذلك يحذر من النقل من كتاب إلى كتاب، من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح.
وروى البيهقي إن الشافعي رحمه الله أقبل على مؤدب فقال له: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح من تؤدبهم إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عِندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تتركه، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة". انتهىِ. أما إذا تحققت أهلية المتعلم وتأكدت معرفته، فالأولى إن لا يدع فناً من العلوم الشرعية إلا نظر فيه، فإن ساعده طول العمر على التبحر فيه فذاك، وإلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العلم، ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم، ولا يغفلن عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.
الثالث: إن يصحح ما يقرأه قبل حفظه تصحيحاً متقناً، إما على الشيخ وإما على غيره ممن يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظاً محكماً ثم يكرر عليه بعد حفظه تكراراً جيداً، ثم يتعاهده بعد ذلك ولا يحفظ شيئاً قبل تصحيحه، لأنه يقع في التحريف والتصحيف، وقد تقدم إن العلم لا يؤخذ من الكتب فإنه من أضر المفاسد، وينبغي إن يحضر معه الدواة والقلم والسكين للتصحيح، أي في مجلس التصحيح، وأما التصحيح حال الدرس، فكان بعضهم يمنع منه لما فيه من الاشتغال عن تقرير الشيخ، وإنما يجعل عليه علامة بظفره أو نحوه ليصلحه بعد فراغه وبضبط ما يصححه لغةً وإعراباً. وإذا رد الشيخ عليه لفظُة، وظن إن رده خلاف الصواب أو علمه، كرر اللفظة مع ما قبلها لينتبه لها الشيخ، أو يأتي بلفظ الصواب على سبيل الاستفهام، فربما وقع ذلك سهواً أو سبق لسان لغفلة، ولا يقل بل هي كذا، بل يتلطف في تنبيه الشيخ له، فإن لم ينتبه قال: فهل يجوز فيها كذا? فإن رجع الشيخ إلى الصواب فلا كلام، وإلا ترك تحقيقها إلى مجلس آخر يتلطف لاحتمال إن يكون الصواب مع الشيخ، وذلك أنه إذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسألة لا يفوت تحقيقه، ولا يعسر تداركه، فإن كان كذلك كالكتابة في رقاع الاستفتاء وكون السائل غريباً، أو بعيد الدار، تعين تنبيه الشيخ على ذلك في الحال بإشارة أو تصريح، فإن ترك ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بما أمكن من تلطف أو غيره، وإذا وقف على مكان كتب قبالته بلغ العرض والتصحيح.
الرابع: إن يبكر بسماع الحديث، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه، والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه وفوائده ولغته وتواريخه، ويعتني بمعرفة أنواعه صحيحها وحسنها وغيرها، فإن الحديث أحد جناحي العلم بالشريعة، والمبين لكثير من الجناح الآخر وهو القرآن، ولا يقنع بمجرد السماع كغالب محدثي هذا الزمان، بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية، لأن الدراية هي المقصود بنقل الحديث وتبليغه.
الخامس: إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الاشكالات والفوائد المهمات، أنتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة، والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة، وحل المشكلات والفروق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم، ولا يستقل فائدة يسمعها أو يتهاون بقاعدة يضبطها، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها، ولتكن همته في طلب العلم عالية، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيرة ولا يقنع من إرث الأنبياء بيسيرة، ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكن منها أو يشغله الأمل والتسويف عنها، فإن للتأخير آفات، ولأنه إذا حصلها في الزمن الحاضر، حصل في الزمن الثاني غيرها ويغتنم وقت فراغه ونشاطه، وزمن عافيته وشرخ شبابه، ونباهة خاطره، وقلة شواغله، قبل عوارض البطالة، أو موانع الرياسة.
قال عمر: تفقهوا قيل إن تسودوا. وقال الشافعي: تفقه قبل إن ترأس، فإذا ترأست فلا سبيل إلى الفقه، وليحذر من مضرة نظره نفسه بعين الكمال، والاستغناء عن المشايخ، فإن ذلك عين الجهل وقلة المعرفة وما يفوته أكثر مما حصله، قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وطن أنه قد استغنى فهو اجهل ما يكون، وإذا كملت أهليته وظهرت فضيلته، ومر على أكثر كتب الفن، أو المشهورة منها، بحثاً ومراجعة ومطالعة، اشتغل بالتصنيف وبالنظر في مذاهب العلماء، سالكاً طريق الإِنصاف فيما يقع له من الخلاف؛ كما تقدم في آداب العالم.
السادس: إن يلزم حلقة شيخه في التدريسِ والاقراء، وجميع مجالسه، إذا أمكن ؛ فإنه لا يزيده إلا خيراً وتحصيلاً وأدباً وتفضيلاً، كما قال علي رضي الله عنه في حديثه المتقدم: ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها شيء. ويحضر موضع الدرس قبل حضور الشيخ، ولا يتأخر إلى بعد جلوسه وجلوس الجماعة، فيكلفهم المعتاد من القيام ورد السلام.
وقد قال السلف. من الأدب مع المدرس إن ينتظره الفقهاء ولا ينتظرهم، ويحفظ النوم والنعاس والحديث والضحك، ولا يتكلم في مسألة أخذ الشيخ يتكلم في غيرها، ويجتهد على مواظبة خدمته والمسارعة إليها، فإن ذلك يكسبه شرفاً وتجليلاً، ولا يقتصر في الحلقة على سماع درسه فقط، إذا أمكنه، فإن ذلك علامة قصور الهمة وعدم الفلاح وبطء التنبه، بل يعتني بسائر الدروس المشروحة ضبطاً وتعليقاً ونقلاً، إن احتمل ذهنه ذلك، ويشارك أصحابها حتى كأن كل درس منها له.
ولعمري إن الأمر لكذلك للحريص، فإن عجز عن ضبط جميعها، اعتنى بالأهم فالأهم منها، وينبغي إن يتذاكر مواظبو مجلس الشيخ ما وقع فيه من الفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، وأن يعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم، فإن في المذاكرة نفعاً عظيماً، وينبغي المذاكرة في ذلك عند القيام من مجلسه قبل تفرق أذهانهم، وتشتت، خواطرهم، وشذوذ بعض ما سمعوه عن إفهامهم، ثم يتذاكرونه في بعض الأوقات، وافضل المذاكرة في الليل. وكان جماعة من السلف يمدون المذاكرة من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح، فإن لم يجد الطالب من يذاكره، ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه ليعلق ذلك على خاطره، فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء سواء، وقل إن يفلح من اقتصر على الفكر والنقل بحضرة الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده.
السابع: إذا حفر مجلس الشيخ، سلم على الحاضرين بصوت يسمع جميعهم، وخص الشيخ بزيادة تحية وإكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف، وإذا سلم، فلا يتخطى رقاب الحاضرين إلى قرب الشيخ، من لم يكن منزلته كذلك، بل يجلس حيث انتهى به المجلس، كما ورد في الحديث، فإن صرح له الشيخ والحاضرون بالتقدم أو كانت منزلته، أو كان يعلم إيثار الشيخ والجماعة لذلك فلا بأس، ولا يقيم أحداً من مجلسه، أو يزاحمه قصداً فإن آثره بمجلسه لم يقبله إلا إن يكون في ذلك مصلحة يعرفها القوم، وينتفعون بها من بحثه مع الشيخ لقربه منه أو لكونه كبير السن، أو كثير الفضيلة والصلاح، ولا ينبغي لأحد إن يؤثر بقربه من الشيخ إلا لمن هو أولى بذلك، لسن أو علم أو صلاح أو نسب أهل البيت النبوي، بل يحرص على القرب من الشيخ إذا لم يرتفع. في المجلس على من هو افضل منه، وإذا كان الشيخ في صدر مكان فافضل الجماعة أحق بما على يمينه ويساره، وإن كان على طرف صفه أو نحوها، فالمبجلون مع الحائط ومع طرفها قباله، وينبغي للرفقاء في درس واحد، أو دروس، إن يجتمعوا إلى جهة واحدة ليكون نظر الشيخ إليهم جميعاً عند الشرح، ولا يخص بعضهم في ذلك دون بعض.
الثامن: إن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ، فإنه أدب معه واحترام لمجلسه، وهم رفقاؤه فيوقر أصحابه ويحترم كبراءه وأقرانه، ولا يجلس وسط الحلقة، ولا قدام أحد، إلا لضرورة، كما في مجلس التحديث. ولا يفرق بين رفيقين، ولا بين متصاحبين، إلا برضاهما معأَ، فقد جاء النهي عن الجلوس بين الرجلين إلا بإذنهما، فإذا وسعوا جلس وجمع نفسه، ولا يجلس فوق من هو أولى منه.
قال أبو محمد اليزيدي: "أتيت الخليل بن أحمد في حاجة فقال لي: ههنا يا أبا محمد، فقلت: أضيق عليك، فقال إن الدنيا بحذافيرها تضيق عن متباغضين، وإن شبراً في شبر لا يضيق على متحابين".
وينبغي للحاضرين إذا جاء القادم إن يرحبوا به، ويوسعوا له، ويتفسحوا لأجله، ويكرموه بما يكرم به مثله، فإذا تفسح له في المجلس وكان حرجاً ضم نفسه ولا يتوسع، ولا يعطي أحداً منهم جنبه ولا ظهره، ويتحفظ من ذلك ويتعهده عند بحث الشيخ له ولا يجنح على جاره، أو يجعل مرفقه قائماً في جنبه، أو يخرج عن بنية الحلقة بتقدم أو تأخر. ولا يتكلم في أثناء درس غيره أو درسه بما لا يتعلق به، أو بما يقطع عليه بحثه، وإذا شرع بعضهم في درس، فلا يتكلم بكلام يتعلق بدرس فرغ، ولا بغيره مما لا تفوت فائدته، إلا بإذن الشيخ وصاحب الدرس. ولا يتكلم بشيء حتى ينظر فيه فائدة وموضعاً، ويحذر المماراة في البحث والمغالبة فيه، فإن ثارت نفسه ألجمها بلجام الصمت والصبر، واقتداء بحديث من ترك المرء وهو محق، بني الله له بيتاً في أعلى الجنة، فإن ذلك أقطع لانتشار الغضب وأبعد عن منافرة القلوب، وإن أساء بعض الطلبة أدباً على غيره لم ينهره غير الشيخ، إلا بإشارته أو سراً بينهما على سبيل النصيحة، وإن أساء أحد أدبه على الشيخ، تعين على الجماعة انتهاره ورده، والانتصار للشيخ بقدر الإمكان وفاء بحقه، ولا يشارك أحد من الجماعة أحداً في حديثه ولا سيما الشيخ، فإن علم إيثار الشيخ ذلك أو المتكلم فلا بأس به.
التاسع: إن لا يستحي من سؤال ما أشكل عليه، ويفهم ما لم يتعقله بتلطف وحسن خطاب، وأدب وسؤال، قالت عائشة: "رحم الله نساء الأنصار، لم يكن الحياء يمنعهن إن يتفقهن في الدين". وقد قيل: من رقّ وجهه عند السؤال، ظهر نقصه عند اجتماع الرجال. ولا يسأل عن شيء في غير موضعه إلا لحاجة أو علم بإيثار الشيخ ذلك، وإذا سكت الشيخ عن الجواب لم يلح عليه، وإن أخطأ في الجواب فلا يرد عليه في الحال، وقد تقدم.
وكما لا ينبغي للطالب إن يستحي من السؤال، فكذلك لا يستحي من قوله "لم أفهم" إذا سأله الشيخ، لأن ذلك يفوت عليه مصلحته العاجلة والآجلة، أما العاجلة فحفظ المسألة ومعرفتها واعتماد الشيخ فيه الصدق والورع والرغبة، والآجلة سلامته من الكذب والنفاق واعتياده التحقيق.
العاشر: مراعاة نوبته فلا يتقدم عليها بغير رضى من هي له. روي إن أنصارياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأله، وجاء رجل من ثقيف، فتمال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا أخا ثقيف إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة فاجلس كيما نبدأ بحاجة الأنصاري قبل حاجتك.
قال الخطيب: يستحب للسابق إن يقدم على نفسه من كان غريباً لتأكد حرمته. وروى في ذلك حديثين عن ابن عباس وابن عمر، ومن كان له حاجة ضرورية علمها المتقدم، أو أشار الشيخ بتقدمه فيستحب إيثاره، وإلا فلا لكونه قربة، ولا يسقط حق السابق بذهابه إلى ما يضطر إليه من قضاء حاجة، أو تجديد وضوء، إذا عاد بعده.
الحادي عشر: إن يكون جلوسه بين يدي الشيخ على ما تقدم تفصيله وهيئته في آدابه مع شيخه، ويحضر كتابه الذي يقرأ منه معه ويحمله بنفسه، ولا يضعه حال القراءة على الأرض مفتوحاً، بل يحمله بجديه ويقرأ منه، ولا يقرأ حتى يستأذن الشيخ، ولا يقرأ عند شغل قلب الشيخ بملل، أو غضب، أو جوع، أو عطش، أو غير ذلك.
الثاني عشر: إذا حضرت نوبته استأذن الشيخ، كما ذكرناه، فإن أذن له استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يسمىِ الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يدعو للشيخ ولوالديه ولمشايخه ولنفسه ولسائر المسلمين، وكذلك يفعل كلما شرع في قراءه درس، أو تكراره، أو مطالعته، أو مقابلته، في حضور الشيخ وفي غيبته، وإذا دعا الطالب للشيخ قال: ورضي الله عنكم وعن شيخنا وإمامنا، ونحو ذلك، ويقصد به الشيخ، ويدعو الشيخ أيضاً للطالب كما دعا له، فإن ترك الطالب الاستفتاح بما ذكرناه جهلاً أو نسياناً نبهه عليه وعلمه إياه وذكره به، فإنه من أهم الآداب، وقد ورد في الحديث في بدء الأمور المهمة بالحمد، وهذا منها.
الثالث عشر: إن يرغِّب بقية الطلبة في التحصيل ويدلهم على مكانه، ويصرف عنهم الهموم الشاغلة عنه، ويهون عليهم مئونته، ويذاكرهم بما حصل له من الفوائد والقواعد والغرائب، وينصحهم في الدين، فبذلك يستنير قلبه ويزكو عمله ولا يفخر عليهم، ويعجب بجودة ذهنه، بل يحمد الله على ذلك ويستزيده منه بدوام شكره.
الفصل السابع
في الآداب مع الكتب التي هي آلة العلم
وما يتعلق بتصحيحها أو ضبطها وحملها ووضعها وشرائها وعاريتها ونسخها..و غير ذلك وفيه أحد عشر نوعاً: الأول: ينبغي لطالب العلم إن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه شراء، وإلا فإجارة أو عارية لأنها آلة التحصيل، ولا يجعل تحصيلها وكثرتها حظه من العلم، وجمعها نصيبه من الفهم، كما يفعله كثير من المنتحلين الفقه والحديث، وقد أحسن القائل، إذا لم تكن حافظاً واعياً، فجمعك للكتب لا ينفع، وإذا أمكن تحصيلها شراء لم يشتغل بنسخها، ولا ينبغي إن يشتغل بدوام النسخ، إلا فيما يتعذر عليه تحصيله لعدم ثمنه أو أجرة استنساخه، ولا يهتم المشتغل بالمبالغة في تحسين الخط، وإنما يهتم بتصحيحه وبضبطه ولا يستعير كتاباً مع إمكان شرائه أو إجارته.
الثاني: يستحب إعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممن لا ضرر منه بها، لما فيه من الإعانة على العلم، مع ما في مطلق العارية من الفضل والأجر. قال رجل لأبي العتاهية: أعرني كتابك، فقال: إني أكره ذلك، فقال: أما علمت إن المكارم موصولة بالمكاره، فأعاره، وكتب الشافعي إلى محمد بن الحسن:
يا ذا الذي لم ترى عين من رآه مثله
العلم يأبى أهله أن يمـنـعــوه أهـــلـــه
وينبغي للمستعير أن يشكر للمعير ذلك ويجزيه خيراً، ولا يطيل مقامه عنده من غير حاجة، ولا يحشيه ولا يكتب شيئاً في بياض فواتحه وخواتمه، إلا إذا علم رضى صاحبه، وهو كما يكتبه المحدث على جزء سمعه أو كتبه، ولا يعير غيره ولا يودعه لغير ضرورة، حيث يجوَز شرعاً، ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه، فإن كان الكتاب وقفاً على من ينتفع به غيرمعين، فلا بأس بالنسخ منه مع الاحتياط، ولا بإصلاحه ممن هو أهل لذلك، وحسن أن يستأذن الناظر فيه، وإذا نسخ منه بإذن صاحبه أو ناظره، فلا يكتب منه والقرطاس في بطنه أو على كتابته، ولا يضع المحبرة عليه ولا يمر بالقلم الممدود فوق كتابه، وانشد بعضهم:
أيها المستعير منـي كـتـابـاً ارض لي فيه ما لنفسك ترضى
الثالث: إذا نسخ من الكتاب أو طالعه، فلا يضعه على الأرض مفروشاً منشوراً، بل يجعله بين شيئين أو كرسي الكتب المعروف، كيلا يسرع بقطع حبكه، وإذا وضعها في مكان مصفوفة، فلتكن على كرسيِ أو تخت خشب أو نحوه، والأولى أن يكون بينه وبين الأرض خلوا كيلا تندى أو تبلى، وإذا وضعها على خشب أو نحوه، جعل فوقه وتحتها ما يمنع تآكل جلودها به، وكذلك يجعل ببينها وبين ما يصادفها أو يستندها من حائط أو غيره، ويراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها وشرفها ومصنفيها أو جلالتهم، فيضع الأشراف أعلى الكل. ثم يراعي التدريج، فإن كان فيها المصحف الكريم جعله أعلى الكل، والأولى إن يكوَن في خريطة ذات عروة في مسمار، أو وتد في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس، ثم كتب الحديث الصرف، ثم تفسير القرآن ثم تفسير الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم النحو والتصريف، ثم أشعار العرب، ثم العروض. فإن استوى كتابان في فن أعلى أكثرهما قرآناً أو حديثاً فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا، فأقدمهما كتابة وأكثرهما وقوعاً في أيدي العلماء والصالحين، فإن استويا فأصحهما.
وينبغي إن يكتب اسم الكتاب عليه في جانب آخر الصفحات من أسفل، ويجعل رؤوس حروف هذه الترجمة إلى الغاشية التي من جانب البسملة، وفائدة هذه الترجمة معرفة الكتاب، وتيسر إخراجه من بين الكتب، وإذا وضع الكتب على أرض أو تخت فلتكن الغاشية التي من جهة البسملة أو الكتاب إلى فوق، ولا يكثر وضع الدفة في أثنائه، لئلا يسرع تكسرها ولا يضع ذوات القطع الكبير فوق ذوات الصغير، كيلا يكثر تساقطها ولا يجعل الكتب خزانة الكراريس أو غيرها، ولا مخدة ولا مروحة، ولا مكنساً ولا مسنداً، ولا متكأ، ولا مقتلة للبق وغيره، ولا سيما في الورق فهو على الورق أشد، ولا يطوي حاشية الورقة أو زاويتها، ولا يعلم بعود أو شيء جاف، بل بورقة أو نحوها، وإذا علم بظفره فليكن يسيراً.
الرابع: إذا استعار كتاباً فينبغي له إن يتفقده عند إرادة أخذه ورده، وإذا ترى كتاباً تعهد أوله وآخره ووسطه وترتيب أبوابه وكراريسه، وتصفح أوراقه واعتبر صحته، ومما يغلب على الظن صحته إذا ضاق الزمان عن تفتيشه، ما قاله الشافعي رحمه الله قال: إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق وإصلاح، فاشهد له بالصحة، وقال بعضهم: لا يضيء الكتاب حتى يظلم، يريد إصلاحه.
الخامس: إذا نسخ شيئاً من كتب العلوم الشرعية، فينبغي أن يكون على طهارة مستقبلاً القبلة، طاهر البدن والثياب، بحبر طاهر، ويبتدئ كل كتاب بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، فإن كان الكتاب مبدوءاً فيه بخطبة، يتضمن حمد الله تعالى والصلاة على رسوله، كتبها بعد البسملة وإلا كتب هو ذلك بعدها، ثم كتب باقي الكتاب وكذلك يفعل في ختم الكتاب وآخر جزء منه بعدما يكتب آخر الجزء الأول أو الثاني )مثلاً( ويتلوه كذا وكذا إن لم يكن كمل الكتاب، ويكتب إذا كمل: تم الكتاب الفلاني، ففي ذلك فوائد كثيرة وكلما كتب اسم الله تعالى أتبعه بالتعظيم مثل، تعالى، أو سبحانه، أو عز وجل، أو تقدس ونحو ذلك، وكلما كتب اسم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتب بعده الصلاة والسلام عليه وعلى آله، ويصلي هو عليه وعليهم بلسانه أيضاً. وجرت عادة السلف والخلف بكتابة صلى الله عليه وعلى آله وسلم لموافقة الأمر في قوله تعالى: )صلوا عليه وسلموا تسليما(.
وذكر الآل لما روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: لا تصلوا علي الصلاة البتراء. قالوا وما الصلاة البتراء يا رسول الله، قال: تقولون اللهم صل على محمد وتمسكون، بل قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. ولما روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: من صلى صلاة لم يصل فيها على أهل بيتي لم تقبل منه.
وجاء في الحديث عن علي عليه السلام مرفوعاً: الدعاء محجوب حتى يصلى على النبي وأهل بيته وغير ذلك من الأحاديث، ولا يختصر الصلاة في الكتابة، ولو وقعت في السطر مراراً كما يفعل بعض، فيكتب صلع، أو صلم، أو صلم، وكل ذلك غير لائق بحقه صلى الله عليه وعلى اله وسلم. وقد ورد في كتابة: الصلاة بكمالها، عليه وعلى آله، وترك اختصارها آثار كثيرة، وإذا مر بذكر الصحابي العدل، كتب رضي الله عنه، وكلما مر بذكر أحد من السلف فعل ذلك، أو كتب رحمه الله، ولا سيما الأئمة الأعلام.
السادس: ينبغي إن يتجنب الكتابة الدقيقة في النسخ. قال بعض السلف: اكتب ما ينفعك وقت حاجتك، ولا تكتب ما لا ينتفع به وقت الحاجة، والمراد وقت الكبر وضعف البصر، وقد يقصد كثير السفر بالكتابة الدقيقة خفة المحمل، وهذا وإن كان قصداً صحيحاً، إلا إن المصلحة الفائتة به في آخر الأمر أعظم.
السابع: إذا صحح الكتاب بالمقابلة على أصله الصحيح، أو على شيخ فينبغي له إن يشكل، ويعجم المستعجم، ويضبط الملتبس، ويتفقد مواضع التصحيف. وقد جرت العادة في الكتابة بضبط الحروف المعجمة بالنقط، وأما المهملة فمنهم من يجعل للإهمال علامة، وينبغي إن يكتب على ما صححه وضبطه في الكتاب وهو محل شك عند مطالعته أو تطرق احتمال، صحح صغيرة، ويكتب فوق ما وقع في التصحيف أو في النسخ وهو خطأ كذا، صغيرة، ويكتب في الحاشية، صوابه كذا، إن تحققه، وإلا فيعلم عليه صورة رأس صاد، تكتب فوق الكتاب غير متصلة بها، فإذا تحققه بعد ذلك وكان المكتوب صواباً زاد تلك الصاد حاء فيصير صح، وإلا كتب الصواب في الحاشية كما تقدم، وإذا وقع في النسخة زيادة، فإن كانت كلمة واحدة فله إن يكتب عِليها "لا" وإن يضرب عليها، وإن كانت اكثر من ذلك، فإن شاء كتب فوَق أولها "من" وعلى آخرها "إلى" ومعناه من هنا ساقط إلى هنا. وإن شاء ضرب على الجميع بأن يخط عليه خطاً دقيقاً يحصل به المقصود ولا يسود الورق. ومنهم من يجعل مكان الخط نقطاً امتثالية، وإذا تكررت الكلمة سهواً، من الكتاب، ضرب على الثانية لوقوع الأولى صواباً في موضعها، إلا إذا كانت الأولى آخر سطر فإن الضرب عليها أولى، صيانة لأول السطر، إلا إذا كانت مضافاً إليها، فالضرب على الثانية أولى لاتصال الأولى بالمضاف.
الثامن: إذا أراد إن يخرج شيئاً في الحاشية ويسمى اللحق بفتح "الحاء"، علم له في موضعه بخط منعطف قليلاً إلى جهة التخريج، وجهة اليمين أولى إن أمكن ثم يكتب التخريج في محاذاة العلامة صاعداً إلى أعلى الورقة، لا نازلاً إلى أسفلها، لاحتمال تخريج آخر بعده، ويجعل رأس الحروف إلى جهة اليمين، سواء كان في جهة يمين الكتابة أو يسارها، وينبغي إن يحسب الساقط وما يجيء منه من الأسطر قبل إن يكتبها، فإن كان سطرين أو أكثر جعل آخر سطر منها يلي الكتابة إن كان التخريج عن يمينها، وإن كان التخريج عن يسارها جعل أول الأسطر مما يليها ولا يوصل الكتابة والأسطر بحاشية الورقة، بل يدع مقداراً يحتمل الحك عند حاجته مرات، ثم يكتب في آخر التخريج "صح"، وبعضهم يكتب بعد صح الكلمة التي تلي آخر التخريج في متن الكتاب علامة على اتصال الكلام.
التاسع: لا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمة على حواشي كتاب يملكه ولا يكتب في آخره "صح" فرقاً بينه وبين التخريج، وبعضهم يكتب عليه حاشية أئدة، وبعضهم يكتب في آخرها دارة كذا. ولا ينبغي إن يكتب إلا الفوائد المهمة المتعلقة بذلك الكتاب، مثل تنبيه على إشكال أو احتراز، أو رمز أو خطأ، أو نحو ذلك، ولا يسوده بنقل المسائل والفروع الغريبة، ولا يكثر الحواشي كثرة يظلم الكتاب أو تضيع مواضعها على طالبها، ولا ينبغي الكتابة بين الأسطر، وقد فعله بعضهم بين الأسطر المفرقه بالحمرة وغيرها، وترك ذلك أولى مطلقاً.
العاشر: لا باًس بكتابة الأبواب والتراجم والفصول بالحمرة، فإنه أظهر في البيان وفي فواصل الكلام، وكذلك لا بأس بالرمز به على أسماء أو مذاهب، أو أقوال أو طرق، أو أنواع، أو لغات، أو أعداد ونحو ذلك، ومتى فعل ذلك بين اصطلاحه في فاتحة الكتاب ليفهم الخائض فيه معانيها. وقد رمز بالأحمر جماعة من المحدثين من الفقهاء وغيرهم لقصد الاختصار، فإن لم يكن ما ذكرناه من الأبواب والفصول والتراجم بالحمرة، أتى بما يميزه من تغليظ القلم وطول المشق واتحاده في السطر، ونحو ذلك، ليسهل الوقوف عليه عند قصده وينبغي إن يفصل بين كل كلامين بدارة أو ترجمة أو قلم غليظ، ولا يوصل الكتابة كلها على طريقة واحدة، لما فيه من عسر استخراج المقصود، وتضييع الزمان فيه، ولا يفعل ذلك إلا غبي جداً.
الحادي عشر: قالوا: الضرب أولى من الحك، لا سيما في كتب الحديث لأن في تهمة وجهالة، ولأن زمانه اكثر فيضيع وفعله خطر فربما نقب الورقة، وافسد ما ينفذ إليه فأضعفها فإن كان إزالة نقطة أو شكله ونحو ذلك فالحك أولى، وإذا صحح الكتاب على الشيخ أو في المقابلة علم على موضع وقوفه، بلغ أو بلغت أو بلغ العرض، أو غير ذلك مما يفيد معناه.
خاتمة
في ذكر ما ينبغي لأهل البيت النبوي من الآداب الزكية
والأخلاق السنية والهمم العلية
وذلك خمسة أنواع:

الأول: بذل الهمة في تحصيل العلوم الشرعية خصوصاً الكتاب العزيز والسنة النبوية، لأن أولى الناس بذلك أهل البيت النبوي، ولم يزل سلفهم رضوان الله عليهم على ذلك، فإن العلوم الشرعية ما طهرت وانتشرت إلا من عنصر بيتهم الشريف فكيف لا يهتفون بهذا، وهذا عبد الله بن عباس الحبر رضي الله عنهما يقول: طلبت العلم فلم أجد أكثر منه في الأنصار، فكنت آتي الرجل فأسأل عنة، فيقال لي: نائم، فأتوسد ردائي ثم اضطجع، حتى يخرج إلي الظهر فيقول: متى كنت هنا يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ? فأقول: منذ طويل، فيقول ة بئس ما صنعت.. هل أعلمتني ? فأقول: أردت إن تخرج إلي وقد قضيت حاجتك. وفي رواية عنه قال: وجدت أكثر حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند هذا الحي من الأنصار، والله إن كنت لآتي الرجل منهم فيقال: هو نائم، فلو شئت إن يوقظ لي. فادعه حتى يخرج لأستطيب بذلك حديثه، رواه الدارمي في مسنده واخرج في الصفوة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من فيهم، قال: فتركته وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد الباب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما جاء بك? ألا أرسلت إلي فآتيك، فأقول بل أنت أحق إن آتيك، فأسأله عن الحديث. فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني، وقد اجتمع الناس حولي يسألوني فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني. وأخرجه الخطيب في الجامع من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، إلا أنه قال: فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تنفخ الريح علِى التراب، والباقي سواء، وقد تقدم قول ابن عباس: ذلك طالباً فعززت مطلوباً، فقد أفضى ذلك بابن عباس إلى كمال الشرف والفخار، وأخرج الخطيب في الجامع عن الشعبي قال: أخذ ابن عباس رضي الله عنهما بركاب زيد ابن ثابت فقال له: أتمسك بي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء، وأخرج أيضاً عن الحسن قال: رئي ابن عباس رضي الله عنهما آخذاً بركاب أبي بن كعب فقيل له: أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأخذ بركاب رجل من الأنصار? فقال: أنه ينبغي للحبر إن يعظم ويشرف، وقد تقدم ما روي إن علياً بن الحسين عليهما السلام كان يذهب إلى زيد بن اسلم، فيجلس إليه يعني للأخذ عنه، فقيل له: أنت سيد الناس وأفضلهم، تذهب إلى هذا العبد فتجلس إليه ? فقال: العلم يتبع حيث كان وممن كان، أي إن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: الشريف كل الشريف من شرفه علمه، والسؤدد حق السؤدد لمن اتقى ربه، والكريم من أكرم عن ذل النار وجهه، وما أحسن قول امرئ القيس:
لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلـنـا تبني ونفعل مثلما فعلوا
وقال محمد النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضي الله عنهم: كنت أطلب العلم في دور الأنصار حتى أني لأتوسد عتبة أحدهم فيوقظني الإنسان فيقول: إن سيدك قد خرج إلى الصلاة وما يحسبني إلا عبده.
الثاني: تطهير القلب من كل دنس، وغل، وحسد، وخلق ذميم، وسوء عقيدة، فإنها من خبايات القلب، قال الله تعالى: )إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا(. وأيضاً فبذلك يحصل التهيؤ لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائقه وغوامض حقائقه. وقد سبق في آداب المتعلم إن بعضهم قال: العلم صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن، وكما لا تصلح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصلح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبيث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها، وإذا طيب القلب للعلم ظهرت بركته ونما كالأرض إذا طيبت للزرع نما زرعها وزكا، ثم لا بد من حسن النية في طلب العلم، بأن يقصد به امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأحيا شريعته والدخول في سلسلة العلم المنتهية إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، محققاً بذلك حصول النسبتين، وإن يعد في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه وتنوير قلبه، إلى غير ذلك مما أسلفناه مع سائر ما تضمنه من آداب العالم والمتعلم، فعليك بتدبره وتذكره باعتبار الصدق والإخلاص، فقد قال الجنيد رحمه الله: ما طلب أحد شيئاً بجد وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كله، نال بعضه. وانشد أبو يعلي الموصلي:
أصبر على مضض الادلاج بالسحر و بالرواح على الحاجات والكبـر
لا تعجزن ولا يضجرك مطلبـهـا فالنجح يتلف بين العجز والضجـر
إنـي رأيت وفي الأيام تـجـربة للصبر عاقبة محـمـودة الأثـر
و قل من جد في أمر يطـالـبـه و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وإياك إن تقصد بالعلم الأغراض الدنيوية من تحصيل الرئاسة والجاه والمال، والتصدر في المجالس فيحبط عملك ويكشف نور علمك ويضيع تعبك، وتكون ممن لم ينفعه الله بعلمه، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من علم لا ينفع والتوسل بالعلم الذي هو أعظم العبادات إليها من أعظم الصوارف عنها.
الثالث: اجتناب كل ما يستقبح شرعاً فإن القبيح من أهل هذا البيت أقبح منه من غجرهم، ولهذا قال العباس رضي الله عنه لأبنه عبد الله، كما في تاريخ دمشق: يا بني إن الكذب ليس بأحد من هذه الأمة أقبح منه بي وبك وبأهل بيتك، يا بني لا تكونن بشيء مما خلق الله أحب إليك من طاعته ولا أكره إليك من معصيته، فإن الله عز وجل ينفعك بذلك في الدنيا والآخرة. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: لن يستكمل المرء حقيقة الإِيمان حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه، وقال: من لزم الاستقامة لزمته السلامة، وجماع ذلك كله ما جاء من إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوصى أهل بيته بتقوى الله ولزوم طاعته.
وقال الحسن المثنى عليه السلام: وإني أخاف إن يضاعف للعاصي.
منا العذاب ضعفين، ووالله إني لأرجو إن يؤتى المحسن أجره منا مرتين. وقد أخرج الخطيب البغدادي في الجامع عن جابر بن عبد الله: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إن الله يحب معاني الأخلاق ويكره سفاسفها. واخرج أيضاً عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الله يحب معاني الأخلاق وأشرفها ويكره سفاسفها. وأخرج أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق، وأولى الخلق بذلك أهل البيت النبوي، لمضاهاة ذلك تكريم محتدهم وتشريف نسبهم ولتكون حشمتهم في النفوس موفورة وحرمة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيهم محفوظة، حتى لا ينطق بذمهم لسان ولا يشنؤهم إنسان، وأولى الناس مروءة من كانت له نبوة النبوءة.
الرابع: ترك الفخر بالإباء وعدم التعويل عليهم من غير اكتساب للفضائل الدينية، فقد قال الله تعالى: )إن أكرمكم عند الله اتقاكم(. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أي الناس أكرم? فقال أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله بن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني? قالوا: نعم، قال: فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. وروى العسكري والقضاعِي وغيرهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. وهو في صحيح مسلم في جملة حديث. وجاء عنه صلى الله عليه وعلى اله وسلم في الإشارة إلى سلوك التواضع، وإطراح المفاخر، قوله: أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد، وقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، هون عليك فلست بملك إنما أنا عبد.
وأخرج الدارمي وغيره، عن عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر بعضكم على بعض. وقد جاء في أحاديث كثيرة حثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل بيته على خشية الله واتقائه وطاعته، وتحذيرهم ألا يكون أحد أقرب إليه منهم بالتقوى يوم القيامة، وإن لا يؤثروا الدنيا على الآخرة اغتراراً بنسبهم، كما في حديث أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: )و أنذر عشيرتك الأقربين( دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاجتمعوا قريشا فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً تسابلها ببلالها؛ أخرجه مسلم في صحيحه وكذا البخاري بدون الاستثناء.
وحديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا بني هاشم لا يأتين الناس يوم القيامة بالآخرة يحملونها على صدورهم وتأتوني بالدنيا على ظهوركم لا أغني عنكم من الله شيئاً؛ أخرجه أبو الشيخ وابن حبات. وحديث معاذ رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج معه يوصيه، ثم التف إلى المدينة فقال: أن أهل بيتي لا يرون أنهم أولى الناس بي، وليس كذلك.. إن أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا، أخرجه الطبراني وأبو الشيخ، وهو عند احمد في مسنده بلفظ: إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا، وعن الفضيل بن مرزوق قال: سمعت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول لرجل ممن يغلو فيهم: ويحكم أحبونا لله، فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا الله فأبغضونا، قال: فقال له الرجل: إنكم ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأهل بيته، فقال: ويحكم لو كان الله نافعاً بقرابة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بغير عمل بطاعته، لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا أباه وأمه، وإني أخاف إن يضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين، ووالله إني لأرجو إن يؤتى المحسن منا أجره مرتين أخرجه الطائي في أواخر الحديث الرابع من أربعينه، ولله در القائل:
لعمـرك مـا الإِنـسـان إلا بـدينـه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسـب
لقد رفع الإسلام سـلـمـان فـارس و قد وضع الشرك الشقي أبا لـهـب
فما الحسـب الـمـوروث إن در دره لمحتسب إلا بـآخـر مـكـتـسـب
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شـعـبة من المثمرات اعتده الناس في الخطب
وجاء عن أبي الأسود الدؤلي رضي الله عنه أنه قال:
العلم زين وتشريف لصاحـبـه فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لا خير فيمن له أصل بـلا أدب حتى يكون على ما زانه حدبـا
كم من كريم أخي عيٍّ وطمطمة فدم لدى الصوم معروفٍ إذا نسبا
في بيت مكرمة آبـاؤه نـجـب كانوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا
و خامل مقرف الآبـاء ذي أدب نال المعالي بالآداب والـرتـبـا
أمسى عزيزاً عظيم الشان مشتهراً في خده صعر قد ظل محتجبـا
العلم كنز وذخـر لا نـفـاد لـه نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المرء مالاً ثم يحـرمـه عما قليل فيلقى الذل والحـربـا

و جامع اسم مغبوط بـه أبـداً و لا يحاذر منه الفوت والعطبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه لا تعدلن بـه دراً ولا ذهـبـا
وروى الخطيب البغدادي عن أحمد بن عبد الجليل، أنه قال من قصيدة له:
لا يكون السري مثل الدنـي لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء كلما أحسن المر ء قضاء من الإمام علـي
الخامس: سلوك طريق سلفهم في التواضع والحلم والصبر على الأذى ذاكرين قوله تعالى: )و أصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور( وما كان عليه نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الصبر على الأذى، وما كانوا يتحملونه في الله تعالى حتى كانت لهم العقبى. فينبغي لأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في اقتفاء آثارهم والاهتداء بهديهم وأنوارهم والاقتداء بأقوالهم وأفعالهم وزهدهم وورعهم وتحققهم لمعرفة ربهم عز وجل، فإنهم أولى الناس بذلك. وقد أخرجِ الدولابي وابن عبد البر إن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليأَ، فقال: اعفني. قال: لتصفنه لي، قال: أما إذا لا بد من وصفه؛ كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس إلى الليل ووحشته، وكان عزيز العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويبينا إذا استبناه ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا، لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظُم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله. وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غرُي غيري، إلي تعرضت أو إليَّ تشوقت؛ هيهات قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كثير.. آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، انتهى.
وتواضعه وورعه وزهده أشهر من إن يذكر حتى قال رضي الله عنه: لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها وعن محمد ابن علي عليهما السلام قال: قال الحسن عليه السلام: إني لأستحيي من ربي إن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته. فمشى عشرين مرة من المدينة على رجليه. وعن علي بن زيد قال: حج الحسن عليه السلام خمس عشرة حجة ماشياً، وإن النجائب لتقاد معه، وخرج من ماله مرتين وقاسم الله ماله ثلاث مرات. أخرجها في الصفوة، وعن مصعب بن الزبير قال: حج الحسين بن علي عليهما السلام خمساً وعشرين حجة ماشياً أخرجه أبن عبد البر والبغوي في معجمه. ويروى أنه قيل للحسين عليه السلام إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من العافية، فقال رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من أتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختارها الله له. وأخرج ابن الأخضر في معالم العترة الطاهرة عن عبد الله بن أبي سليمان قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا مشى لا تجاوز يده فخذه ولا يخطر بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة فيقال له: مالك? فيقول: ما تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي. وعن موسى بن طريف قال: استطال رجل على علي بن الحسين فتغافل عنه، فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: وعنك أغضي.
وقد اشتهر إن زين العابدين عليه السلام كان عظيم الهدى والسمت، وقد أخرج الخطب في الجامع عن ابن عباس رضي الله عنهما، إن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة وكلمات أهل البيت النبوي وحكمهم وأوصافهم الشريفة، لا تكاد تنحصر، ومنها معاملتهم لأمة مشرفهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكارم الأخلاق من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام ومزيد الإكرام، ورفقهم بهم في الكلام، وترك التعاظم على آحادهم وإحسان الضن بهم، وتخصيصهم بمزيد الإكرام للعلماء المتمسكين بسنة نبيهم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنهم ورثة الأنبياء، فينبغي أن يكون المنتسبون إليهم متخلقين بمحاسن أخلاقهم وآدابهم ونزاهتهم، متأملين لسيرهم وطرائقهم سالكين سبلهم في ذلك، حتى يكونوا خير الناس أسلافاً، وأخلاقاً، وأعمالاً، ويدخلون السرور على مشرفهم صلى الله عليه وآله والماضين من سلفهم عند عرض أعمالهم.
هذا آخر ما تيسر جمعه بحمد الله وإعانته فنسأل الله أن ينفع به، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم، إنه سميع عليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين. آمين اللهم آمين.




Baca selengkapnya......

cara Menghafal Al Qur'an

كيف تحفظ القرآن
الشيخ: علي بن عمر بادحدح


الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. نحمده هو أهل الحمد و الثناء فله الحمد في الأولى و الآخرة و له الحمد على كل حال و في كل آن، نصلي و نسلم على خاتم الرسل و الأنبياء نبينا محمد بن عبد الله و على آله و صحابته و من اتبع هداه و اقتفى أثره إلى يوم الدين و عنا معه بعفوك و رحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، أيها الأخوة الكرام و الأحبة سلام الله عليكم و رحمته و بركاته، ابتداءً أقول انه ليس في هذا الدرس وصفة سحريه يمكن بتطبيقها أن تحفظ القرآن بصورة لم تكن تتخيلها أو تتوقعها، و لكن هذا الدرس فيه خلاصة تجارب عمليه وهو في الحقيقة يركز على مضمون هذا العنوان أي كيف تحفظ القرآن الكريم بصورة عامه لجميع الناس مع التفاوت الذي قد يكون يختلف فيه بعضهم عن بعض. نريد في هذا المجلس أن نركز على الإجابة على هذا السؤال، كيف تحفظ القرآن؟
و سنعرض فيه إلى خمسة جوانب:
أولا: الأسس العامة
ثانيا: الحفظ
ثالثا: المراجعة
رابعا: الروابط و الضوابط
خامسا: اختلافات و فروق



أولا: الأسس العامة 

أولا الأسس العامة التي لا غنى لك عنها و لا مجال لتطبيق ما بعدها إلا بها، و في غالب الظن أنه لا نجاح إلا بتأملها و تحقيقها، و هي أمور كثيرا ما نتذكرها و نذكر بها، و هي أسس ينبغي ألا نغفل عنها في هذا الموضوع و في غيره.

 أولا: النية الخالصة 
فنحن نعلم أن مفتاح القبول و التيسير إخلاص القصد لله عز و جل، و أن كل عمل يفتقر إلى الإخلاص لا يؤتي ثمرته و إن آتى بعض ثماره فإن عاقبته في غالب الأحوال تكون فجة و ثماره تكون مرة أضف إلى أنه يحرم من أعظم ما يتأمله المرء و هو القبول عند الله عز و جل و حصول الأجر و الثواب. فلذلك الإسلام في كل عمل لكي يسهل ويعان المرء عليه هو أن يخلص لله عز و جل.

 ثانيا: السيرة الصالحة 
يقول جل و علا ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ البقرة 282- ونعلم جميعا ما يؤثر عن الشافعي من قوله " شكوت الى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي و أخبرني بأن النور علم و نور الله لا يؤتاه عاصي " و نعلم ما أثر لابن مسعود  " إن الرجل ليحرم العلم بالذنب يصيبه "، فنحن نعلم أن الحفظ على وجه الخصوص يحتاج إلى إشراقة قلب و إلى توقد ذهن و المعصية تطفئ نور القلب و يحصل بها التبلد بالعقل و يحرم بها العبد من التوفيق أيضا. فإذاً لا بد أن نستعين على طاعة الله بطاعة الله و أن نجعل طريقنا إلى نيل بعض هذه الأمور من الطاعات و المندوبات و المسنونات و أمور الخير أن نجعل طريقنا إليها طاعة لله سبحانه و تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ البقرة 282- نتيجة عملية تلقائية لأن القلب يشرق حينئذٍ بنور الإيمان، و النفس تطمئن إلى ما حباها الله عز و جل من السكينة و الطمأنينة فيتهيأ الإنسان حينئذٍ لهذا العمل العظيم حفظ القرآن الكريم.

 ثالثا: العزيمة الصادقة 
فإن المرء الذي يعتريه الوهن و يعترضه الخور و يغلب على حياته الهزل و يميل في كثير من أموره إلى الكسل فإنه لا يمكن أن يُعول عليه. و لا يُظن أنه يصل إلى النتيجة المرجوة في حفظ كتاب الله عز و جل. فهذا أمر يحتاج أن يشمر عن ساعد العزم و لا بد له أن يقلل من أمور الراحة فيخفف من نومه و يزيد من عمله و يكثر من قراءته و غير ذلك من الأمور التي لا بد لها من همه و عزيمة صادقه قوية ماضية لا تستسلم عند أول عارض من العوارض، و لا تقف عند أول عقبة من العقبات.

 رابعا: الطريقة الصائبة 
و هي جزء مما سيأتي حديثنا عنه، غير أني أريد أن أشير إلى أن بعض الأخوة عندما يسمع حسا على حفظ القرآن أو يتشوق إلى ذلك يبدأ بحماسة مندفعة بداية غير صحيحة غالبا ما تُسلمه إلى العجز و الكسل أو تصدمه بعدم القدرة على الاستمرار. كمن يبدأ مخلطا سورة من هنا و سورة من هنا، و جزءا منفرداً. أو مقاطع متقطعة و هو يرغب بعد ذلك أن يصل بينها و أن يصل بها إلى حفظ القرآن الكريم كاملا، فغالبا ما يتشوش مثل هذا العمل، و غالبا ما ينقطع عنه، و كثيرا ما يفتقد ما حفظ منه، و ذلك لأن الجزء الواحد أو القطعة الواحدة لا تغري المرء إذا كانت منفصلة بأن يحافظ عليها، لأنها وحدها وليس لها ارتباط بما قبلها و لا بعدها، و إن كان في ذلك خير و لا شك، و ليس في هذا الكلام ما نريد به أن نصرف أحدا أن يحفظ سورة بعينها أو بعض السور بعينها أو الأجزاء بعينها كاملة. و لكننا نتحدث عن من يريد أن يحفظ حفظاً كاملا على طريقة صائبة، و من ذلك أيضا أن بعض الناس يبدأ و يشرع دون أن يستشير و أن يسأل من حفظ قبله أو من هو مشتغل بالتحفيظ و التدريس في هذا الميدان فكما أنك تحتاج إلى المشورة في أي عمل من أعمال الدنيا أو إلى مدخل من مداخل العلوم و الدراسة التي يدرسها كثير من الناس فأنت بحاجة إلى هذا في هذا الأمر أيضا.
و من ذلك أيضا البرنامج الواضح عندما نقول أن هناك طريقة صائبة فإنها هي التي تحفظ بإذن الله تلك العزيمة التي تستمر و تمشي وتمضي عندما يكون هناك برامج و مراحل نقطة بعد نقطة، مرحله بعد مرحله. أما خطة عشواء أما أجزاء متقطعة، أما مراحل منفصلة، فإن ذلك في غالب الأمر لا يصل إلى مبتغاه

 خامسا: الاستمرارية المنتجة 
فهذا أمر قد يطول أمده و زمانه و قد يعظم جهده و البذل لأجل الوصول إليه، فإن كنت قصير النفس فإنك في غالب الأمر لا تبلغ الغاية، تحتاج إلى استمرار يثمر و ينتج بإذن الله عز وجل. وحديث النبي عليه الصلاة و السلام يحضرنا في هذا المقام عندما  ‏سئل النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أي الأعمال أحب إلى الله قال ‏‏ أدومها وإن قل وقال اكلفوا من الأعمال ما تطيقون – رواه البخاري . فقليل دائم خير من كثير منقطع. لا تبدأ البداية الكبيرة التي قلنا عنها ثم تنقطع أو لا تبدأ ولو بداية يسيره ثم تتوقف، و كما أثر أيضا عن الأجر و الفضل الذي يكون للحال المرتحل كما سئلوا عن الحال للمرتحل قيل هو الذي يختم القرآن ثم يشرع فيبدأ به من جديد، فهنالك استمرارية و اتصال و دوام، استمرار هو الذي تحصل به نتيجة بإذن الله عز و جل.
فإذاً لابد من نية و سيرة وعزيمة و طريقة واستمرارية، هذه أسس لا بد منها قبل أن نبدأ أو أن نشرع فيما يتعلق بالتفصيل و التفريغ.



 ثانيا: الحفظ 

الأمر الثاني الحفظ، وهو جوهر هذا الموضوع، و الحديث فيه عن الطريقة وعن الشروط اللازمة، و العوامل المساعدة، و نبدأ بالطريقة.

أولا: الطريقة 
من خلال التجربة ومن خلال ما نرى من عمل كثير من طلاب التحفيظ و الحافظين يمكن أن نرى أو نلقي الضوء على طريقتين اثنتين.




 الطريقة الأولى 
إحداهما طريقة الصفحة، نعني بذلك أن يقرأ مريد الحفظ الصفحة كاملة من أولها إلى آخرها قراءة متأنية، صحيحة، ثلاث أو خمس مرات بحسب ذاكرة الإنسان وقدرته على الحفظ، فإذا قراها هذه المرات الثلاث أو الخمس قراءة فيها استحضار قلب وتركيز الذهن و العقل و ليس مجرد قراءة لسان فقط كلا، إنما قد جمع قلبه وفكره لأنه يريد من هذه القراءة أن يحفظ.
فإذا أتم الثلاث أو الخمس أغلق مصحفه، و بدأ يسمع صفحته، و قد يرى بعضكم أن هذا لن يتم أو لن يستطيع حفظها بقراءة الثلاث أو الخمس، أقول نعم. سيكون قد حفظ من أولها و مضى ثم سيقف وقفة، أن يفتح مصحفه و ينظر حيث وقف فيستعين، و يمضى مغلقا مصحفه، ثم سيقف ربما وقفة ثانية، أو ثالثة، ثم ليعد تسميع الصفحة.
ما الذي سيحصل !، الموضع الذي وقف به أولا لن يقف فيه ثانيه، لأنه سيكون قد نقش في ذاكرته و حفر في عقله، فستقل الوقفات. و غالبا من خلال التجربة سيسمع المرة الأولى ثم الثانية و في الغالب أنه في الثالثة يأتي بالصفحة محفوظة كاملة بعد أن يقوم بمجموع ما قرأه ثمان مرات، ثلاث أو خمس في القراءة الأولية المركزة، ثم يبدأ بالخطوة الثانية بتسميع هذه الصفحة و سيقف كما قلت بعض الوقفات في أول مرة و في المرة الثانية و في الغالب أنه في الثالثة لا يقف.
ماذا يصنع في الخطوة الثالثة، أن يكرر التسميع الصحيح الذي أتمه في المرة الأخيرة ثلاث مرات تقريبا. فحينئذ يكون مجموع ما قرأ به هذه الصفحة في ذلك الوقت تسع مرات أو أحد عشر مرة.
إذاً يقرأ الصفحة قراءة مركزة صحيحه ثلاث أو خمس مرات ، ثم يسمعها في ثلاث تجارب أو ثلاث محاولات. ثم يضبطها في ثلاث تسميعات. و بذلك سوف تكون الصفحة محفوظة حفظا جيدا متينا مكينا إن شاء الله.
ما مزية هذا الحفظ أو هذه الطريقة، مزيتها أنك لا تتتعتع أو تتوقف عندما تصل الصفحات بعضها ببعض بعد ذلك. لأن بعض الاخوة يحفظ آنفا آية منفصل بعضها عن بعض، ما الذي يحصل ؟ عند كل آخر آية يقف حمار الشيخ في العقبة، و يحتاج إلى دفعة فتعطيه أول كلمة من الآية التي بعدها فينطلق كالسهم حتى يبلغ آخر الآية التي بعدها ثم يحتاج إلى توصيلة أخرى و هكذا. أما الصفحة فهي كاللوح أو كالقالب يحفظها في قلبه و يرسمها في مخيلته، و يتصورها أمامه من مبدئها إلى منتهاها ويعرف غالبا عدد آياتها، آية كاملة صفحة كاملة بعض الصفحات آيتين وبعضها ثلاث و بعضها آيات كثيرة ليس بالضرورة تصورها و لكن هذه الطريقة تجعله ، أولا يأخذ الصفحة كاملة بلا توقف يستحضرها تصورا فيعينه ذلك على حفظها ثم يتصورها كما قلت هل هي في الصفحة اليمنى أو اليسرى، بأي شيء تبتدئ و بأي شيء تنتهي وتحكم بإذن الله عز وجل إحكاما جيداً.

 الطريقة الثانية 
طريقة الآيات أو الآية، لا بأس بها و إن كنت أرى الأولى أفضل منها. ما هي هذه الطريقة، أن يقرأ الآية مفردة قراءة صحيحه مرتين أو ثلاث مرات، نفس الطريقة، لكن بآية واحده و طبعا لما كانت آية لا نحتاج أن نعيدها من ثلاث إلى خمس، مرتين فقط أو ثلاث ثم يسمع هذه الآية، ثم يمضى إلى الآية الثانية فيصنع بها صنيعه بالأولى، لكنه بعد ذلك يسمع الأولى و الثانية، ثم يحفظ الثالثة بالطريقة نفسها، يقرأها ثم يسمعها منفردة ثم يسمع الثلاث من أولها الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، ثم يمضي إلى الرابعة إلى آخر الصفحة.
ثم يكرر تسميع الصفحة ثلاث مرات. وحذار في هذه الطريقة أن ترى أن الآية الأولى قد أكثرت من ذكرها فلا عازة لتكرارها، بعضهم إذا بلغ نصف الصفحة قال النصف الأول مضبوط فلا يحتاج إذا حفظ الآية في النصف الثاني أن يعيد النصف الأول إلى الأخير. هنا لا يقف حمار الشيخ في العقبة في منتصف الصفحة و ثق من هذا تماما وجربه تراه شاهدا على كلامي. لا بد كل آية تحفظ في الصفحة أن تعاد من الأول إلى حيث بلغ، حتى يتم الصفحة ثم يأتي بها ثلاث مرات تسميعا كاملا.
تختلف هذه الطريقة عن الأولى أنها أبطأ في الغالب. أبطأ في الوقت فالصفحة في الطريقة الأولى تستغرق بالمعدل نحو عشرة دقائق، قد يقول قائل العشر قليلة، أقول عشر دقائق إذا كان يريد أن يحفظ أما إذا كان ينظر في الغادين و الرائحين و المتشاكلين و المتضاربين و يسمع هنا و.. هذا ولا مئة دقيقة و لا عشرة أيام يحفظ فيها شيء. أما الثانية فهي أبطأ و الغالب أنها تستغرق نحو خمس عشرة دقيقة لأنه سيكرر كثيرا.
أما من حيث التطابق فآخر الأمر أنه سيحفظ الصفحة كاملة و لكن هذه الطريقة أضعف إذا لم يصل الآية بالآية سيكون هناك ذلك التوقف الذي أشرت إليه، إذا هذه الطريقة من حيث الأصل حفظ الصفحة أو حفظ الآية و في آخر الأمر ستعود النتيجة إلى حفظ الصفحة.
أنتقل إلى النقطة الثانية وهي نقطة مهمة مكملة و هي الشروط اللازمة.

 ثانيا الشروط اللازمة 
الشروط اللازمة لكي تكون هذه الطريقة صحيحة سواء اخترت الطريقة الأولى أو الثانية لابد من هذه الشروط.

 الشرط الأول: القراءة الصحيحة 
من الأخطاء الكثيرة أن كثيرا ممن يعتزمون الحفظ أو يشرعون فيه يحفظون حفظا خاطئا. لابد قبل أن تحفظ أن يكون ما تحفظه صحيحا، و هناك أمورا كثيرة في هذا الباب منها على سبيل المثال لا الحصر؛
أولا تصحيح المخارج: إن كنت تنطق ثم "سم" أو الذين "الزين" فقوم لسانك قبل أن تحفظ. لأنك إذا حفظت و أدمنت الحفظ بهذه الطريقة و واضبت ستكون جيدا في الحفظ لكنك مخطئا فيه. فلا بد أولا من تصحيح المخارج وتصحيح الحروف لا بد منه.
ثانيا ضبط الحركات: بعض الأخوة إما لضعف قراءته، أو لعجلته يخلط في الحركات، و هذا الخلط لا شك أنه خطأ و أنه قد يترتب عليه خلل في المعنى. و ذلك ليس من موضع حديثنا و لكن لا بد أن يتنبه المرء له و أن يحذر منه، و من ذلك أن اللغة العربية فيها تقديم و تأخير، وفيها إضمار و حذف وتقدير، وفيها إعرابات مختلفة، فأحيانا بعض الناس لا يتنبه، أحيانا مثلا تقديم المفعول على الفاعل ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات﴾ البقرة 124- بعضهم يحفظها ﴿ إبراهيمُ ﴾ و ربُهُ أو ربَهُ بالنسبة له أحيانا قد لا تفرق، و ما حفظته خطئا فثق تماما أنه يثبت هذا الخطأ وبعد ذلك تصعب إزالته، يحتاج إلى عملية استئصال، مثل الذي يبني بناء ثم يتبين له أن هذا البناء خطأ لابد له أن يكسر و أن يصحح البناء، لابد أن يزيل الخطأ ثم بعد ذلك يصحح من جديد. لماذا تكرر الجهد مرتين و تعيد العمل مرتين، ابدأ بداية صحيحة. و هناك أمثلة كثيرة في مسألة ضبط الحركات، فإن هناك كثيرا من الأمثلة التي تقع في هذا الجانب كما في الضمائر أيضا. الضمائر عندما يقع الخلط فيها أيضاً يقع خلط في الحفظ غير مقبول مطلقا، كما يكون الضمير بالضم فيكون للمتكلم، أو يكون بالفتح للمخاطب كما في قوله تعالى ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾ المائدة 116- التاء في الضميرين الأولين مضمومة و في الضميرين الثانيين مفتوحة فأي تغيير بالحركة يغير المعنى.
كما يقرأ البعض (و كنتُ أنت الرقيب عليهم ) ما يمكن أن تستقيم أبدا وهكذا الكثير من الكلمات و الحركات تحتاج إلى الضبط ابتداء قبل أن يخطىء فيها.
أيضا هناك ضبط الكلمات و هو أشد و أخطر، الحركات منظوره يمكن أن يراها الإنسان و لكن بعض الكلمات إما لصعوبتها أو لأن هذا الحافظ لم يأخذ الأسلوب الذي سأذكره لاحقا، أو ليس متمرسا في تلاوة القرآن فإنه يحفظ الكلمة خطأ و من هذا قول الله عز وجل ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ -القلم 51 - سمعت مرة من يقرؤها " ليزقلونك "، السبق بين الحروف يحصل وعندما يراها رؤية سريعة وهو لا يعرفها تثبت على هذه الطريقة، أحيانا بعض الكلمات ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا ﴾ هود 28- قد يستثقلها و يقرأها قراءة خاطئة و تختلف الحروف بهذه الطريقة. كذلك بعض الكلمات التي ربما ليس في القرآن إلا مثال واحد منها ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ ﴾ يونس 35 - يقرأها "أم من لا يَهْدِي" لأنها كلها في القرآن يَهْدِى وما فيها يَهِدي فينتبه إلى مثل هذه الكلمات.
كذلك ما يتعلق في الرسم كما في البقرة (52) ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ و في المائدة (3) ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾ ليس فيها ياء وإنما كسرة، هذه أيضا مواطن مما قد يحفظه ابتداء حفظا خاطئا و يقع في هذا في أخطاء. و كذلك بعض الكلمات التي هي في مواضع بضبط معين و في مواضع أخرى بضبط آخر مثل ﴿ سِخريا ﴾ و ﴿ سُخريا ﴾ قد يحفظها تمر عليه الآية الأولى فتقرأ سُخريا فكلما مرت قال سُخرياً و لم يفرق بين سُخريا و سِخريا و غيرها من المواضع التي فيها مثل هذه الأمثلة، كما أيضا في الجمع و التثنية مثل قول الله سبحانه و تعالى ﴿ رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ فصلت 29 - و ليس الَّذِين، بعض الناس يقول الذين متعود، نادرا أو قليل ضمير التثنية فيقول ﴿ الَّذِينَ ﴾ و لا ينتبه لمثل هذا إذا كان غير متمرس أو كان متعجلا، و غير ذلك كثير أيضا كما أشرت في الأمثلة إنما هي للتقرير كما في قوله عز وجل ﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ الحشر 17- و ليس خالدِين فيها، خالدَيْن بالتثنية و ليس بالجمع فإذا لا بد أيضا من ضبط الكلمات حتى لا يحفظها حفظا خاطئا. و الأمثلة في ذلك كما قلت كثيرة جدا.
أيضا هنالك ضبط خواتيم الآيات، مع السرعة و العجلة قد لا ينتبه فيحفظ حفظا خاطئا ﴿ وهو العزيز الرحيم ﴾ ما قرأها بنظره قرأها ﴿ و هو العزيز الحكيم ﴾ وهكذا مضى عليها فحفظها، هذه واضحة لكن أحيانا كما هو في التجارب أن الذي يحفظ يستشهد و يظن أحيانا أن هذه الآية في ذهنه قد سمعها أو قد أدمن قراءتها وهي في ذهنه أنها ﴿ و هو العزيز الحكيم ﴾ فيقولها هكذا و يظن أنه قرأها و هو ما قرأها و ما مر ببصره عليها بل ربما يمر ببصره عليها وقد سبق في ذهنه أنها كذا و لا يقرأ المكتوب بل يُثبت ما في الذاكرة عنده أو ما يسمعه أو ما يظنه أو يتوهمه، فينبغي أن يضبط ذلك حتى تكون القراءة صحيحة قبل أن يحفظ شيئا خاطئا، و كما قلت هنا التنبيه أن الحفظ الذي فيه خطأٌ، خطأ. يعنى هذا الحفظ الذي فيه أخطاء هو حفظ فيه خطأ لأن طريقته خطأ لأنه يبقى و يستمر ويصعب تغييره في كثير من الأحوال.
كيف نحقق هذه القراءة الصحيحة، الأصل أيه الأخوة الأحبة أن القارىء و الحافظ لابد أن يقرأ على شيخ متقن، تلقى القرآن تلقيا بالمشافهة، وهذا هو الأصل في تلقي القرآن لقنه النبي عليه الصلاة و السلام صحابته و الصحابة من بعدهم، فليس القرآن كتاب يقرأ مثل غيره من الكتب، ففيه رسم و فيه بعض الأمور التي ذكرتها الآن من تقديم و تأخير و كذا وفيه قراءات و فيه بعض الكلمات التي ترسم بطريقة و تكتب بطريقة، وفيه أحيانا آيات أو كلمات تقرأ بوجهين، هذا كله لا يتيسر لك بمجرد القراءة، الأصل أن تكون متلقيا عن شيخ قد أتقن وتعلم فتكون قراءتك صحيحة فهو الذي يقرأ لك الصفحة أولا ويصححها لك ثم تمضي بعد ذلك و تطبق الطريقة التي قلناها، ممكن هذى خطوة ثانيه إذا كنت تلقيت التجويد و تلقيت القراءة و أحسنتها بمعنى أنك من ناحية القراءة النظرية جيد، و تحسن القراءة و لا تسقط فلا بأس بأن تبدأ بتطبيق هذه الطرق الأولى أو الثانيه لكن لابد أن تكون قد أتقنت القراءة وعرفتها و قرأت إما ختمه كاملة أو قرأت معظم القرآن و ذلك مما يضبط لك هذا الجانب، هذا أول الشروط التي لا بد منها لتَكمُل لك طريقة الحفظ الصحيح.

 الشرط الثاني: الحفظ المتين 
الحفظ الجديد لا بد أن يكون حفظا متينا، لا يقبل فيه خطأ ولا أقل من الخطأ و لا وقفه و لا تعتعه، الحفظ الجديد أعني، إذا أردت أن تحفظ صفحة جديده إن لم يكن حفظك لها أقوى – مبالغة – من حفظك للفاتحة فلا تعد نفسك قد حفظتها، لماذا ؟ لأن الحفظ الجديد هو مثل الأساس، الآن إذا جئت بأساس البناء و تعجلت حيثما اتفق سوف ينهد البناء فوق رأسك يوما ما. و الحفظ الجديد إذا قبلت فيه بالخطأ و الخطأين، أو التعتعة أو الوقفة فإنك ثق تماما أنك كالذي يبني الرجاء على شفير الهاوية، يعنى كأنك متأرجح، فإذا كنت في البداية متأرجح كيف ستبني على ما بعده، كيف تريد أن تكون هذه الصفحة بعدها صفحات و صفحات، لا يمكن. لا ينبغي الترخص مطلقا في ضبط الحفظ الجديد ولو أخذت بدل الدقائق العشر التي ذكرناها عشرين أو ثلاثين أو أربعين، المهم لا تنتقل من حفظك الأول حتى تتقنه اتقانا كما قلت مبالغةً أكثر من إتقانك للفاتحة، لو قلت لأحدكم الآن سمع الفاتحة فسَمَّعها بكل سهولة و يسر، بل لو كان نائما و حلم و قرأ الفاتحة لن يخطِأ فيها، لماذا ! لأن الفاتحة قد أدمن قراءتها و حفظها أكثر من حفظه أسمه، لابد أن يكون الحفظ الأول مثل ذلك كما قلت دون أخطاء و دون عجلة.

 الشرط الثالث: التسميع للغير 
وهذا الذي سيكتشف لك الأخطاء التي ذكرتها، بعض الناس الصفحة الأولى للمرة الثالثة يسمع الصفحة خرج مطمئنا منشرح الصدر مسرورا وهو قد حفظ و هناك بعض الأخطاء مما أشرت إليه، كيف يكتشفها، لا يكتشفها، يعيد مرة ثانيه في اليوم التالي صفحته ويسمعها في خطئها و المصحف أمامه، لماذا ؟ لأنه تصور أنه حفظ حفظا صحيحا. الذي يكتشف لك ذلك أن تسمع الصفحة لغيرك مهما أنت بالغا الحد بالذكاء، و حدة الذهن و سرعة الحفظ فلابد أن تسمع لغيرك، أن تعطي المصحف غيرك ليستمع لك، وهذا أمر لا بد منه. لا بأس قد لا تجد من يسمع لك الصفحة إذا حفظتها أو الصفحتين أو الثلاث لا بأس، لكن لو جمعت خمسا من الصفحات أو عشرا من الصفحات سمعها لغيرك، هنا لازال هناك مجال للاستدراك، أما بعد أن تحفظ عشرة أجزاء تأتي و تسمع و عندك من الأخطاء ما الله به عليم هذا لا يمكن أن يكون مقبولا.

 الشرط الرابع التكرار القريب 
الحفظ بالحفظ، لو أنك صوبته وصححته، و لو أنك متنته و قويته و لو أنك سمعته و قرأته، لا يكفي فيه ذلك حتى تكرره في وقت قريب، ما معنى الوقت قريب، في يومك الذي حفظت به الصفحة لو حفظتها بعد الفجر، إذا تركتها إلى فجر اليوم التالي ستأتي إليها وقد أصابتها هينات واعتراها بعض الوقفات و دخلت فيها بعض المتشابهات مما قد حفظته قبلها من الآيات، لابد أن تكرره في الوقت نفسه.
في ذلك اليوم الصفحة الجديدة، بعد التسميع الذي ذكرته ثلاث مرات، على أقل تقدير أن تسمع الصفحة خمس مرات في ذلك اليوم، و سأذكر كيف يمكن تطبيق ذلك دون عناء و لا مشقه، لان بعض الأخوة يقول هذا يريد أن نجلس في المسجد من بعد الفجر إلى المغرب حتى نطبق هذه الطرق التي يقولها. أذكر مثال أن الحفظ الذي تتركه و لا تكرره يسرع في التفلت في ترجمة ابن أبي حاتم، الإمام ابن أبي حاتم رحمة الله عليه كان يقرأ كتابا يريد أن يحفظه فكان يقرأه بصوت عالي ويكرره و عنده عجوز بالبيت وهو يكرر الكتاب الأولى والثانية و الثالثة والعاشرة، فملت منه قالت: ما تصنع يا هذا، قال: إني أريد أن أحفظه، قالت: ويحك لو كنت تريد لقد فعلت فإني قد حفظته، فقال: هاتيه، فسمعت له الكتاب من حفظها سماعا فحفظته، قال و لكني لا أحفظه حتى أكرره سبعين مره. يقول فجئتها بعد عام فقلت لها هاتي ما عندك من الكتاب فما أتت منه بشيء، أما أنا فما نسيت منه شيئا.
لا تنظر للوقت القريب انظر للمدى البعيد، أنت تريد أن تحفظ شيئا لا تنساه بإذن الله عز وجل.

 الشرط الخامس: الربط بما سبق 
فالصفحة مثل الغرفة بالشقة ومثل الشقة في العمارة، يعنى لا يمكن أن تكون هناك صفحة وحده، لا بد أن تربطها بما قبلها و أن تربطها بما بعدها و سيأتي لنا حديث عن الربط لاحقا.
إذا هذه هي الطريقة ثم هذه الشروط اللازمة .

 ثالثا العوامل المساعدة 
ننتقل إلى العوامل المساعدة. التي تساعدك على هذا و هذا .

 أولا: القراءة في النوافل 
النوافل الرواتب خمس في حد التقدير في الحد الأدنى لمن لا يزيد، ماذا نقرأ فيها غالبا ، كل واحد سيجيب إجابة واحدة سورة الإخلاص، الكافرون ، الكوثر . نريد الصفحة الجديدة أن تسمعها خمس مرات في هذه الصلوات الخمس أو في هذه الرواتب الخمس. الصفحة عندما تقسمها قسمين، سورة الضحى و ألم نشرح تقريبا في هذا الحديث، فلا تفصل صلواتك عن قراءاتك و حفظك، هذا من أهم العوامل المساعدة أن تغتنم النوافل بإخلاص في حفظ و مراجعة و تثبيت هذا الحفظ.

 ثانيا: القراءة في كل آن 
وخاصة في انتظار الصلوات، ما الفرق بين هذه و تلك؟ في كل آن عندما تذهب لموعد وغالبا تأتي و لا يأتي من واعدته إلا متأخرا فليكن ديدنك أن تكرر حفظك و أن يكون مصحفك في جيبك. الصلوات كثيرا ما نأتيها و قد كبر الإمام، لو قدمنا خمس دقائق قبل كل صلاة لكان عندنا خمس صلوات، خمس مجالس يمكن أن نكرر فيه صفحة الحفظ أو أن نربط بعض الصفحات، أو أن نراجع بعض ما سنذكره في شأن المراجعة. هذا لابد أن يكون لنا اهتمام به و أن نضعه في أذهاننا و تصوراتنا.

 ثالثا: قراءة المحراب 
القراءة الفاحصة التي تفحصك و تمحصك، هل حفظت حفظا صحيحا! هل حفظت حفظا متينا ! إنها قراءة المحراب. أن تتقدم إماما في الصلاة أو أن تؤم الناس إذا تيسر لك ذلك أو إذا وجدت لك الفرصة أو إذا قدمت، اقرأ في المحراب ما حفظته، فإن كنت مطمئنا مستطيعا للقراءة دون تلكأ و لا تخوف و لا توقف فهذا مما يعين لأن قراءتك في الناس غير، إذا أخطأت ركعت، و إذا أخطأت في الركعة الثانية انتقلت إلى سورة أخرى، أما المحراب فغالبا ما يمحصك و يفحصك فحصا جيدا فاحرص عليه إن كنت إماما أن تجعل من حفظك في صلاتك و قراءتك.

 رابعا: سماع الأشرطة القرآنية المجودة 
و هذه نعمة من نعم الله عز وجل علينا، أنك يمكن أن تسمع الحفظ الجديد و القديم في كل يوم في أثناء مسيرك في سيارتك أو قبل نومك في بيتك اجعل شريط القرآن دائم التكرار. و لا يكن ذلك عفوا و ليكن ذلك بطريقة منهجية، بمعنى أنك عندك في هذا الأسبوع سورة معينة للمراجعة تريد أن تجعله ديدنك خلال هذا الأسبوع. و أن تجعل أيضا شريط الحفظ الجديد أيضا ديدنك هذا الأسبوع، ليس كيفما اتفق و حسب الحاجة، لا، افعل ذلك ضمن البرنامج الذي تكمل فيه حفظك و مراجعتك فإن هذا من أعظم الأمور المعينة المساعدة، لأنك ستسمع القراءة الصحيحة و ستعيدها و تكررها، و ستسمعها بحسن التجويد و الترتيل فذلك من أهم العوامل المساعدة.

 خامسا: الالتزام بمصحف واحد للحفظ 
وهذا أيضا من الأمور التي يوصى بها و يحرص عليها كثيرا ، لابد أن تأخذ لك مصحفا واحدا تحفظ عليه قدر استطاعتك من أول المصحف إلى آخره، لأن التغيير تشويش، أنت عندما تلتزم المصحف الواحد غالبا ما ينقذح في ذهنك صورة الصفحة مبدأ السورة في الصفحة و مبدأ الجزء في تلك الصفحة وأين تنتهي و كم عدد الآيات فيها فذلك يثبت الحفظ عندك ويجعلك أقدر على أن تواصل و أن تربط و أن تمضي إن شاء الله مضيا جيدا سريعا وقويا. أما إذا حفظت يوما هنا فهذه الصفحة تبدأ بالسورة وفي مصحف آخر السورة بدايتها في مكان آخر ، لا تستفيد من هذه الفائدة التي هي إحدى الفوائد التي سنذكرها فيما يأتي من الحديث. إذن المصحف الواحد يعين و أجود المصاحف ما يسمى مصحف رأس الآية الذي يبدأ بآية و ينتهي بآية، ليس في صفحة جزء من الآية و تكملتها في الصفحة التي بعدها أو وراءها ، لأنك كما قلنا اجعل قدرك أو حفظك هو الصفحة، مقياسك صفحة ، إما أنك ستحفظ في اليوم صفحة أو أكثر، تلك الصفحة هي اللوح الذي يعينك بإذن الله عز و جل .

 سادسا: استعمال أكبر قدر ممكن من الحواس 
وهو من أهمها و آخرها، و هذه من الناحية العلمية معلوم أن استخدام حاسة واحدة يعطي نتيجة بنسبة معينة، فإذا استخدمت للحفظ أو في هذا العمل حاستين زاد استيعابك و فهمك و حفظك له، و إذا استعملت ثلاثة حواس زاد، إذا استخدمت أربع زاد.
كيف نستخدم الحواس ؟ بعض الأخوة يقرءون كما يقولون يقرأ بعينه، هذه تضعف حفظك. اقرأ بعينك و بلسانك، ارفع صوتك يتحرك اللسان وتسمع الآذان، ثم إذا استطعت و هذا لا شك أنه فيه صعوبة لكن فيه قوة و متانة وهو أمر الكتابة، إذا حفظت صفحتك فاكتبها ولو على غير الرسم، كتابة لتثبيت الحفظ ، فإن الكتابة من أقوى ما يثبت الحفظ تثبيتا راسخا لا ينسخ بإذن الله عز و جل. و نحن نعلم شأن الكتاتيب التي تسمى كتاتيب، و التي بعض الناس يقول زمن الكتاتيب و طريقة الكتاتيب، وكأنه أمر فيه تخلف و هو في حقيقة الأمر من أجود و أمتن و أحسن ما يمكن عليه الحفظ.
وأذكر لكم هذه التجارب تعرفونها خاصة في بلاد المغرب العربي وفي بلاد أفريقيا لازالوا في موريتانيا و غيرها لازالوا بهذه الطريقة. أنا ذهبت مرة إلى المغرب و ذهبت إلى بعض المساجد ووجدت الطلاب كل معه لوحه من الخشب يكتب عليه، فإذا كتب هذا اللوح يظل يردده حتى يحفظه، ثم عندهم هناك سطول من الماء يغمس فيها لوحه فيه ويكون قد ثبت في ذهنه، فإذا محي من لوحه فلا يخشى بإذن الله عز وجل من ذهاب حفظه. فالكتابة أيضا أمر مهم ، وهناك نماذج كما قلت عندما ترى أمثال هؤلاء الذين يحفظون في الكتاتيب تعجب كأن عندك مسجلا، يقول اقرأ من آية كذا ينطلق المسجل ما شاء الله دون أن يخطئ، بل في تركيا عندهم مدارس لتحفيظ القرآن على النظام الداخلي، يدخل فيها الطالب ما يظهر لأهله إلا في آخر الأسبوع لمدة سنتين كاملتين، لكن يحفظ حفظا عجيبا و إن شئت قل أعجب من العجيب أولا بأرقام الآيات بمواضيعها بترتيبها، يمكن إذا جئت بالآية لا يأتيك بالتي بعدها، بل يأتيك بالتي قبلها، و ممكن إذا جئته بالآية و قلت أنك تريد نظائرها قرأ لك هذا الموضع و أتمه ثم جاءك بموضع آخر من سورة أخرى و أتمه، يعنى حفظ في غاية القوة و المتانة .
هذا ما يتعلق بالحفظ.










 ثالثا: المراجعة 

القسم الثالث المراجعة، وهي من تمام الحفظ، فلا حفظ بلا مراجعة، و ليس هناك مراجعة أصلا من غير حفظ. هناك أسس ثلاثة قبل أن ندخل في طريقة المراجعة.

 الأسس 

 أولا : التعاهد الدائم 
ولست كما قلت معنيا بأن نذكر النصوص في تفلت القرآن و ما أخبرنا به نبينا على الصلاة السلام ‏ تعاهدوا ‏ ‏هذا القرآن فوالذي نفس ‏ ‏محمد ‏ ‏بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في ‏ ‏عقلها – رواه مسلم  ، وقال  ‏تعاهدوا ‏ ‏هذه ‏ ‏المصاحف ‏ ‏وربما قال القرآن ‏ ‏فلهو أشد ‏‏ تفصيا ‏ ‏من صدور الرجال من النعم من عقله – رواه أحمد  تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصيا ، إلى غير ذلك من الأحاديث لكن أقول أن القرآن قال الله عز و جل في وصفه ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ القمر 17- ، لكن جُعل من خصائصه أنه سريع التفلت، لماذا ؟
حكمة من الله عز وجل، من أراد أن يحفظ القرآن هكذا ليتباهى به، أو يحفظه ليأخذ به جائزة، فهذا لا بأس يحفظ ثم ينسى، أما من يريد أن يحفظ القرآن حفظا لله عز وجل ثم ينتفع به في عبادته و تعليمه و إلى آخره، فإنه لا بد أن يبقى معه و بقائه معه هو التأثير الإيجابي العملي السلوكي فإن الأمر ليس يتعلق فقط بالحفظ نحن اليوم نركز على هذه المعاني لأننا نهدف إلى هدف معين نريد طريقة الحفظ أما بقية الأمور فليست في معزل عن هذا.

 ثانيا لا بد من المقدار الكبير 
المقدار الكبير، من يريد أن يراجع صفحة باليوم هذا لا تعد مراجعة و لا ينتفع بها إلا في دائرة محدودة جدا.

 ثالثا: استغلال المواسم 
مثل موسم رمضان هو موسم المراجعة الأكبر، فقد كان النبي  يلتقي جبريل في رمضان ويتدارسان القرآن معا في كل رمضان حتى إذا كان عام في العام الأخير تدارسه معه مرتين، فهذه النوافل تجمع و تفيد بإذن الله عز و جل.
أما الطريقة فأحب أن أشير إلى أمر مهم جدا إذا اعتبرنا المراجعة هي عبارة عن وقفات و محطات فأحسب أنها لا تفيد، يعنى أمضي لأحفظ خمسة أجزاء ثم أقف للمراجعة، هذه بالنسبة للتجربة أرى أنها كالذي يحرث في الماء، خاصة إذا كانت طريقته في الحفظ أيضا ليست محكمة وجيدة. لا بد أن تكون المراجعة جزءا لا يتجزأ من الحفظ، فكما تحفظ كل يوم تراجع كل يوم، لا تقل لي ليس عندي في هذه الأيام مراجعة أو المراجعة ستكون في الشهر القادم أو بعد شهرين، هذا لا سيما في البدايات لا يمكن أن يثمر ولا ينفع في غالب الأحوال، لا بد أن تكون المراجعة جزء قصير.

 الطريقة 
ويمكن أن نشير إلى أمرين مهمين في مسألة الطريقة.

 أولا: تسميع أربعة صفحات من الحفظ الجديد 
عند تسميع كل صفحة جديدة لا بد من تسميع أربعة صفحات من الحفظ الجديد قبلها. يعنى يسمع خمس صفحات، في اليوم التالي ماذا سيصنع، سيحفظ صفحة جديدة سيسمعها و معها أربعة صفحات من التي قبلها وستكون صفحة الأمس معها، صفحة الأمس ستكرر خمس مرات، فهذا أولا جزء المراجعة المبدئي الذي هو للحفظ الجديد، يحتاج إلى صيانة باستمرار، مثل أي شيء تترك صيانته يبدأ يتسرب إليه الخلل، إذا أولا مع كل صفحة جديدة يسمع أربع صفحات من الجديد قبلها، هذا سيجعل الصفحة الجديدة تسمع خمس مرات، قبل أن ينتقل قبل ذلك إلى صفحة سادسة وسيعيد قبلها أربع فلن تكون الأولى منها.

 ثانيا: أن يسمع في كل يوم عشر صفحات من القديم 
وكما قلت ليس هذا صعبا أو محالا إذا استغل مشيه بسيارته و صلاته في نوافله و قراءته في نوافله و غير ذلك مما أشرت إليه من سماعه لأشرطة، فيتحقق له ذلك بإذن الله دون عناء كبير المهم النية و العزيمة إلى آخر ما ذكرنا في الأسس العامة هذا يضبط لنا الأمر خاصة في البداية، ثم ماذا يحصل نتيجة لهذا، في البداية أيه الإخوة قد يكون مثل هذا الأمر فيه بعض الصعوبة أو يحتاج لبعض الوقت، لكن مالذي يحصل بعد هذا أيه الأخوة، الذي يحصل الست قد اشترطت عليكم أن تكون حفظ الصفحة الأولى مثل حفظ الفاتحة، فإن طبقتم ذلك ثم قرأتموها خمس مرات في نوافلكم ، ثم كانت ضمن الصفحات الخمس التي تسمع في الأيام التي بعدها، فماذا سيكون شأن هذه الصفحة، هل تراك عندما تراجعها ستحتاج إلى جهد أو إلى عناء، أنت ستتلوها كما تتلو فاتحة الكتاب ، و أنت تمشي و أنت تجلس و أنت تنتظر و أنت تقوم و في وقت من الأوقات، إذا ماذا يحصل، المراجعة إذا أتقناها بهذه الطريقة تصبح شيئا لا يشكل عبئا و لا يحتاج وقتا في الوقت نفسه.
فلو تصورت أنك بدأت الحفظ حديثا، فحفظت الصفحة الأولى، ثم جئت باليوم التالي و حفظت الصفحة الثانية، و بذلك تسمع الصفحتين معا حتى إذا جئت إلى اليوم الخامس سمعت الصفحات الخمس، ثم إذا جئت إلى اليوم العاشر سمعت العشر، و بذلك تمضى إلى نهاية الجزء عشرين صفحة، ماذا سيكون، ستكون الصفحة الأولى قد مرت بك نحوا من ثلاثين مره ، فإذا مشيت على هذه الطريقة، إذا جئت إلى الجزء الثاني و الثالث لن يكون الجزء صعبا عليك، و لن تحتاج أن تقول إذا لابد أن أتوقف الآن حتى أراجع ذلك الجزء، هذا التوقف و الوقفات الطويلة للمراجعة هي حفظ جديد. كثيرا ما يصنع ذلك طلبة التحفيظ، يمضى خمسة أجزاء ثم يقول أقف للمراجعة، ووقفته للمراجعة حفظ جديد يحفظها مرة ثانيه ثم لا يحكمها ويمضى خمسة أخرى ثم يقول أرجع و هو كما قلت إنما يحرث في الماء فلينتبه لذلك.

 العوامل المساعدة 
عوامل مساعدة للمراجعة كما قلت، بعضها مما ذكرت:

 أولاً: الإمامة في الصلاة 
الإمامة في الصلوات هذا أمر مهم كما ذكرت سابقا.

 ثانيا: العمل بالتدريس في مجال التحفيظ 
إذا حفظت و أتممت و ختمت لا شك أن هذا مهم جدا، يعينك كثيرا، إذا صرت مدرسا للتحفيظ بعد أن تحفظ، هذا يسمع لك الجزء الأول، و هذا في الخامس، وذاك في العاشر. إرتبط بالقرآن و تسميعه كثيرا.
 ثالثا: الاشتراك في برامج التحفيظ 
عندما تكون منفردا يختلف الوضع، و لكن عندما تكون مع اثنين أو ثلاثة، أو في حلقة هذا يُسمع و هذا يُسمع و هذا يَسمع لك و أنت تَسمع له سيكون هناك روح من الجد و قدرة على المواصلة في هذا الباب.

 رابعا: قيام الليل و القراءة فيه 
وهو من الأمور النافعة المفيدة التي قل من يأخذ بها إلا من رحم الله، قيام الليل و الإفاضة فيه. وقد أفاض النووي رحمة الله عليه في التبيان في هذا الباب و كما قلت لا أريد أن نتفرع إلى ذكر الفضائل أو المزايا فإن قراءة القرآن في الليل فيها الهدوء و السكينة و استحضار القلب و اجتماع الفكر إضافة إلى ما يفتح الله عز و جل به عليك و أنت تعبده و الناس نائمون إلى غير ذلك، هذا أمر واضح جدا.
هذا ما يتعلق بالمراجعة.



 رابعا: الروابط و الضوابط 


القسم الرابع الروابط و الضوابط. كيف نربط بين الآيات و السور، بعض الناس كثيرا ما يشكون من هذه المشكلة ، خاصة الذين لم يأخذوا بهذه الطرق و لم ينتظموا و يستمروا ، يقول أنا أحفظ و عندي قدرة أن أحفظ في الليلة الواحدة ما شاء الله لي أن أحفظ، لكن المسألة فيها متشابهات و هناك أمور تختلط و السور بعضها البعض، و يسأل عن هذا الأمر. أقول، أولا قبل أن ندخل في التفصيلات، الحفظ لا يتعلق بالروابط و الضوابط و حفظ المتشابهات و غيرها. الحفظ يعتمد على ما ذكرت من حسن الطريقة الصحيحة و من دوام المراجعة المكثفة، لأنه ما المقصود بالحفظ؟ الحفظ أصلا هو عملية ذهنية يمكن فصلها نظريا عن أي شيء آخر، يمكن فصلها عن الفهم، فأنت تستطيع أن تحفظ مالا تفهم، و يمكن فصلها نظريا عن العمل فأنت تستطيع أن تحفظ مالا تعمل به، وهو عملية ذهنية آلية.
مما يذكر في ترجمة أبي العلاء المعري الشاعر، أنه كان وقّاد الذهن سريع الحفظ، حتى إنه كان يحفظ أي شيء يسمعه، فقيل إنه اختلف روميان بينهما وتصايحا في أمر من الحقوق، فاختلفا إلى من يحكم بينهما، فقال لهما هذا الذي يحكم هل شهد أحد غيركما حواركما وخصامكما، قالوا لا لكن كان إلى جوارنا رجل أعمى - وهو أبو العلاء، الذي يسمى رهين المحبسين - فجيء به، قال إني لما لا أعرف رطنهما لكن الأول قال كذا و كذا و الثاني قال كذا و كذا، مثلا كأنهم اثنين يتكلمان باللغة الإنجليزية وهذا حفظ ما قال هذا و ما قال هذا، أما ما هذا الذي قاله ما معناه لا يدري، هو يحفظ.
إذا فلا تتعلم في الحفظ أنك تريد أن تنظر إلى الضوابط و المتشابهات، و يأخذ بعض الأخوة الكتب ما الفرق بين هذه الآية هذا نعم لا بأس لكن ليس هو الأساس، الأساس أن تحفظ ، الحفظ الذي هو التسميع الذي هو التكرار الذي هو إدمان القراءة و التلاوة و التسميع و المراجعة هذا الذي يتحقق به الفرد، هذه أمور أخرى لاحقه و تابعة و من باب النافلة و الزيادة ليست هي أصلا في هذا و لكنها في الوقت نفسه معينة ومفيدة و مكملة و متممة فلا تعتمد عليها و لكن استأنس بها.
وهذه متفرقات حقيقة حول الروابط و الضوابط، هناك متشابهات الله عز وجل يقول ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ﴾ الزمر 23 - أي في بعض معاني التفسير أنه يشبه بعضه بعضا، و نحن نعلم أن هناك آيات مكرره وآيات متشابهة لا يختلف بعضها عن بعض في حرف واحد وهذا من إعجاز القرآن وسَعة و دِقة معانيه وفيه كلام طويل عند أهل العلم، لكن لنأخذ بعض الملامح في مسائل المتشابهات لعلها أن تعين، إضافة أريد أن أشير إلى أن هذه الروابط و الضوابط تعتمد على كل أحد في نفسه، فأنت قد تجعل لنفسك ضابطا ليس لي، فأنا قد أكون قد ضبطت هذه الصفحة أو هذه السورة في تصور معين وأنت ضبطتها في تصور آخر، أي في ضبط المعنى، أما الحفظ فكله واحد.
من ذلك على سبيل المثال.
 أولا: المنفردات و الوحدات 
وهنالك رسالة صغيره بهذا العنوان، أي هناك آيات متشابهة لكن واحدة منها كانت بصيغة معينة، تعرفها حتى تعرف أن ما سواها متطابق وهى الوحيدة التي انفردت بذلك، مثل كما في قوله عز وجل ﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾ البقرة 173- هذه في البقرة لوحدها مع التقديم به لغير الله وفي باقي القرآن إما في المائدة 3 وفي الأنعام 145 و في النحل 115 ﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ ، فقط في البقرة ﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾. هذه لا تقل لي ستجعلني أحفظ. لا، هي بعد أن تحفظ خذ هذه العلامة فإذا جئت و أنت تقرأ في البقرة في الصلاة و غيرها القاعدة في ذهنك فإذا وصلت لها قدمت به و مضيت وأنت مطمئن، لا متشككا هل هذه كذا أو كذا.
من المنفردات أيضا، الآيات التي في بنو إسرائيل ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ البقرة 61- إلى آخره قوله تعالى ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ﴾ تجد النبيين في أكثرهم و تجدها الأنبياء في آل عمران 112 ﴿ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ ﴾ وحدها، وهكذا تجد المنفردات يمكن أن تميزها حتى تضبط أو تتم الحفظ و تتقنه بعد حفظك له إن شاء الله.
هناك أيضا مواطن متشابهات كثيرة بعد أن تحفظ لك أن تصنع الروابط و الضوابط بنفسك، خذ الآيات التي فيها متشابهات و ضعها أمام عينيك و اجعل لها رابطا بحسب ما ترى.
أمر إبليس بالسجود ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ البقرة 34، ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ الأعراف 11 ، ضعها أمامك و ميز بينها بأي تمييز تراه يفيدك و يثبت في ذهنك وليس هناك من شرط في هذا. إذاً الأمر واسع.

 ثانيا: مسألة المتشابهات و ضبطها في الكتب 
هناك كتب قام بها العلماء في ضبط هذه المتشابهات، ما معنى في ضبطها يعنى أنهم جاءوا لك بالآية و شبيهها في موضع واحد، ونبهوا أن الفرق بين هذه و هذه هو هذا الحرف أو هذه الكلمة أو هذا التقديم أو هذا التأخير ، إذا في كونها جُمعت بين مكان واحد فهذا يساعدك على أن تستوعبها و أن تجعل هناك فرقا بينها، إضافة إلى أن العلماء صنف بعضهم في هذه المتشابهات معلقا على الاختلاف بينها في المعاني، فإذا عرفت المعنى لا شك أنه سيثبت لك الفرق بين هذه الآيات و هذه الآية، على سبيل المثال قد ذكرت ذلك بالمناسبة في درس " جولة في المصادر القرآنية" عندما تكلمنا على الكتب التي فيها بيان لاختلاف المعاني بالنسبة للآيات المتشابهة منها " فتح الرحمن في كشف ما يلتبس من القرآن" و منها " درة و التأويل و غرة التنزيل" إلى غير ذلك مما سأذكر منه الآن، أقول هذه الكتب عندما تعرف هذه الكلمة و أن هناك مشابها لها ولكن في اختلاف، وهذا الاختلاف جيء به لغرض هذا المعنى كذا و كذا، هذا يثبت في ذهنك الفرق بين هذا و هذا ، و هو أمر مهم جدا . أضرب مثال، في قصة زكريا عليه السلام وقصة مريم في سورة آل عمران، في الأولى قال ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ آل عمران 40 - و في قصة مريم قال ﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ آل عمران 47 - لم قال هناك يفعل و لم قال هنا يخلق، هناك زكريا الزوج موجود و المر أه موجودة اللهم كبر السن فلأمر ليس مثل قصة مريم امرأة بلا زوج قال ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ فهنا تستطيع أن تفرق بالمعنى بين هذه القصة و تلك القصة فيثبت في ذهنك أن قصة زكريا فيها ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ﴾ و في قصة مريم (﴿ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ﴾ وهكذا.
هناك كتب كما قلت منها " درة التنزيل و غرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات من كتاب الله العزيز " للخطيب الكافي، منها " أسرار التكرار في القرآن " للإمام محمود بن حمزة الكرماني ، و منها " متشابه القرآن" لأبي حسين ابن المنادى، و منها " منظومة هداية المرتاب وغاية الحفاظ و الطلاب " للإمام الشيخ أبى بطر فيها بعض هذه المتشابهات.
و لنأخذ أمثلة مما قد تضبطه بنفسك و تضع له قاعدة وحدك دون غيرك، المسألة واسعة.
مثلا في آل عمران في الآية 176 و 177، و 178 فيها ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾،﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾،﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ اجمعها في كلمة عام، العين عظيم، و الألف أليم ، و الميم مهين، تنضبط معك، فإذا جئت إلى هذه الصفحة انطلقت و أنت مطمئن لا خوف عليك أن تخلط بين هذه و تلك.
مثال أيضا آخر، في المائدة، ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ -62 ﴾ بعده مباشرة ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ -63﴾ بعدها في الصفحة التي بعدها ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ -79﴾ ، اجمعها في كلمة عصف، الأولى عين يعملون و الثانية طاء يصنعون و الثالثة فاء يفعلون، أيضا تنضبط معك و تبقى في ذهنك ولا إشكال فيها بإذن الله عز وجل.
ومثلا ﴿ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴾ الصافات 98- و ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ الأنبياء 70- ميز بينها الصافات فيها الفاء ، نفس كلمة الصافات فيها حرف الفاء فاجعل فيها "فأرادوا" ، و أيضا فيها فاء في "الأسفلين" فإذا الفاء في الصافات في هذا المعنى، و تبقى الأنبياء بالواو و بالأخسرين بدل الأسفلين.
وهكذا قس على هذا أمورا كثيرا تستطيع أن تجعلها على هذا النسق ، و مثل أيضا ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ الإسراء 89- و قوله عز وجل ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ الكهف54. الأولى في الإسراء فيها حرف السين فقدم ما فيه السين " الناس" و قل ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ ﴾ ، و الثانية في الكهف فيها فاء فقدم ما فيه الفاء و قل ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ ﴾.
وهكذا ضوابط معينه ممكن أن تستفيد منها، أيضا تقديم اللهو و اللعب ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ الأعراف 51، ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ العنكبوت 64- قال أحدهم ضابطا لها "و قدم اللهو على اللعب في الأعراف قل و العنكبوت يرضى فيه" .
يعنى أي بيت أي كلمات تضبطها بعض الحروف أي شيء من هذا. هناك أيضا مثل " الرجفة مع الدار " و " الصيحة مع الديار" قاعدة عامه ( فأخذتهم الرجفة ) سيكون الكلام في دارهم، ( فأخذتهم الصيحة ) سيكون الكلام في ديارهم. وهكذا ستجد أنواعا كثيرة في هذا الجانب.

 ثالثا: فهم المعاني و تأملها 
مما يساعد على الربط و الضبط أيضا، كيف أيه الأخوة الأحبة، مثلا موضوع السورة، خاصة السور غير السور الطوال، موضوعها قد يساعدك على أن تتصور التدرج في هذا الموضوع. بدأ الله عز و جل مثلا في سورة الرعد في الآيات التي في السماوات من عظيم خلقه ثم الآيات التي فيها الأرض ثم بعد ذلك انتقل إلى موقف الكفار من هذه الآيات و أنهم كفروا بالله عز و جل ثم انتقل إلى إقرار آخر في علم الله عز وجل، يعني يمكن إذا قرأت ما يعرف بمقاصد السور أن تتصور هذه السورة بمقاطعها و أجزائها فتعينك على تصور تسلسلها.
بعض السور أيضا يعينك أنها القصص الطويلة، القصص الطويلة مثل قصة يوسف ، سورة كاملة إذا عرفت القصة و تسلسلها طبعا لن تقفز من حدث إلى حدث و تأتي بآيات قبل الحدث الأول، إذا كنت تعرف القصة و عرفت مضامينها. و قلت القصص الطويلة مثل قصة يوسف و قصة موسى في بعض المواقع يمكن تصور القصة أن يعين على الربط بين آياتها ويعين ذلك أيضا في مثل السور التي فيها قصص لعدد أو لكثير من الرسل و الأنبياء مثل قصة هود و قصة الأعراف و الأنبياء، حاول أن تعرف أو أن تكتب قصص الأنبياء مرتبة، نذكر مثلا في الأعراف قصة نوح ثم عاد ثم صالح ثم إلى آخره. فاعرفها حتى إذا انتهيت من قصة النبي الأول وأنت تقرأ عرفت أن بعده النبي الثاني فتبدأ بوقفة تحتاج إلى دفعه، فاجعل دفعتك ذاتية دون أن تحتاج إلى من يدفعك أو من يلقنك.
أيضا الأجزاء و الأرباع أيها الأخوة و السور، مبدأ السورة، مطلع الجزء، بداية الحزب أو الربع، مهم جدا و يوفيه. فأنت تجعل لكل ربع مضمونه، مثلا أن تقول الربع الأول في البقرة طبعا سيكون محفوظ، فيه قصة آدم و الملائكة، الربع الثاني قصة بني إسرائيل و فرعون، الربع الثالث قصة البقرة، تجعل لكل ربع مثلا تصورا معينا أو مضمونا معينا تجعله حاضرا في ذهنك هذا الربط بالمعنى و فيه صعوبة لكنه في الغالب مع المراس يتولد عندك شيئ من هذا الربط.

 رابعا: الربط العام 
الضبط المقصود، الرابع و الأخير الربط العام، أن نربط الآيات بطريقة الحفظ التي ذكرناها، و نربط السور و الأجزاء و نعرف ترتيب السور و ترتيب الأجزاء و مطالعها هذا يتم كذلك بالطريقة التي أشرنا إليها في الحفظ و في المراجعة





 خامسا: اختلافات و فروق 


أخيرا النقطة الخامسة من نقاط الدرس وهي الفروقات و الاختلافات. لا شك أن الذي ذكرناه قواعد عامة و أن الناس يتفاوتون في السن و في الحفظ و في سعة الوقت و في القدرة على الاحتمال ونحو ذلك، هذا كله وارد في هذا الباب، لكنني قد ذكرت ما أحسب أنه يصلح للجميع، و لذلك كان بعض الأخوة يتصور أن الدرس سيكون عن حلقات التحفيظ و الطالب في التحفيظ و القدر الذي يأخذه في الحلقة و كذا، قد نجعل هذا جزءا من حديث الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
و قد أردت أن يكون التركيز في هذا على معنى الحس بحثا مجردا لأي أحد كبيرا كان أو صغيرا، موظفا أو طالبا بحلقة أو بغير حلقة، منفردا أو مع مجموعه، يمكن أن يفيده مما ذكرت من هذه المعلومات و الطرق و الملامح السريعة التي أشرت عليها. لكنني أيضا أقول لهذه الفروقات جوانب منها.

 أولا: السن 
الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، فاحفظ و أنت صغير إن استطعت، أما إذا كنت قد كبرت فلن تستطيع أن تصغر نفسك، لكن عوض ذلك في أبنائك، و انتفع بهم إن شاء الله، و الحفظ في الصغر كما قلت حفظ لذات الحفظ أو لمضمون الحفظ، لن أقول للصغير متشابهات لأنه لا يدرك هذا المعنى، لن أستطيع أن أشرح له معاني الآيات و تفسيرها هو سيحفظ حفظا و يرسم رسما، هذا الحفظ هو الحفظ القوي المتين، كما يحصل الآن مثلا في دراسات المعاهد الإسلامية على المناهج القديمة خاصة الأزهر و غيره، يحفظون في الأزهر في الابتدائية - هم عندهم على النظام القديم أربع سنوات ابتدائية ثم أربع سنوات متوسط - يحفظون في الابتدائية أربع سنوات ألفية ابن مالك، كل سنة يحفظون مئتين و خمسين بيت يحفظها الطالب لا يفهم منها شيئا و لا يعقل منها شيئا، فإذا دخل المتوسط كان المنهج المقرر شرح ألفية ابن مالك.
لا تقل لي في مسألة الحفظ ما يقوله لا أقول التربويون، لأن التربويون الحقيقيون لا يقولون هذا، أن الحفظ مسألة غير تربوية و بعض الناس يقول لماذا نرهق أبنائنا بالحفظ في المدارس الابتدائية، و أحدهم كتب في إحدى الجرائد قائلا من قال لكم إن السور القصيرة سهلة الحفظ، يقول بعض السور القصيرة من أصعب ما يمكن حفظه، طبعا هو يتحدث عن نفسه و الله أعلم، أما الله عز و جل قال ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ القمر 17 .
فالحفظ هو الأساس في العلم، ليس وحده و لكن هو الأساس في المدخل، تريد أن تفهم، كيف تفهم مالا تحفظ!. تريد أن تستشهد، كيف تستشهد بما لا تحفظ ! تريد أن تدلل، كيف تدلل على مالا تحفظ !، إلى آخر ذلك الحفظ أمر أساسي و لا بد منه، إذا أول شيء في الفروق و الاختلافات مسألة السن فاحرص على هذا الشيء.

 ثانيا: الأوقات و الشواغل 
اختر الوقت الصافي، الذي فيه صفاء من وجهين،
أولا صفاء الكوادر و الشواغل، بمعنى أنك لا تنصرف به عن شيء.
ثانيا أن يكون صافيا خالصا لفترة الحفظ، لا تجمع معه شيء غيره، لا تحفظ و أنت تريد الحفظ، تحفظ و تأكل، تحفظ و تجيب على التلفون تحفظ و.... لا تفعل ذلك أبدا. اجعل حفظك صافيا في وقته للحفظ و بعيدا عن الشواغل في هذا الوقت، وهذه الأوقات تتفاوت بين الناس لكن أفضل وقتين فيما يرى و الله أعلم في الواقع في حياة الناس، قبل النوم و بعد الفجر.
قبل النوم لن يكون عندك أحد و لن يأتيك أحد، و إن كان الناس كثير منهم تعودوا على الإزعاج و غير ذلك، و لكنه أهدى الأوقات. و بعد الفجر أيضا أهدئها و أعونها على الحفظ.

 ثالثا: البرمجة 
الأمر الثالث الناس تكون في أشغالهم و وظائفهم و لكن هناك أمر لا بد منه البرمجة، ما يكون عندك من أمر له أهمية ضعه في برنامجك، كما أنه لا تتصور أن يمضي يومك دون أن تصلي الفرائض الخمس، أو أن يمضي يومك دون أن تنام، أو دون أن تأكل، أو عند بعض الناس دون أن يفعل شيئا من الأشياء التي تعودها، فاجعل أنه لا يمضي وقتك و يومك إلا و فيه في البرنامج جزء ووقت لهذا الأمر، يقل أو يكثر ليس مهما لكنه لا بد أن يثبت، يقل و يقصر نعم لكن لا يزول بل يثبت، و هكذا سنجد هذا واضحا بينا.
وأخيرا أذكر بعض الأمور الواقعية، فليس هذا الكلام نظريا، و لا خياليا بل هو واقعيٌ في أعظم سور الواقعية، و أذكر لكم بعض الأمثلة من المعاصرين و القدماء.
أما القدماء فقد ذكر الذهبي في معرفة القراء الكبار، ذكر عن أحد المتَرجمين من القراء أنه حفظ القرآن في سن سنين يعني في الخامسة، قال وجمع القراءات في العاشرة، قال و هذا قل في الزمان مثله، و هذا يحصل و يقع و تجد و الحمد لله هذه الأمور واضحة.
الشيخ الدوسري عليه رحمة الله، في ترجمته المطبوعة في كتاب ترجمة حياة الشيخ الدوسري، قال و حفظت القرآن في شهرين، اعتزلت فيها الناس و أغلقت علي مكتبي و لم أكن أخرج إلا للصلاة.
و أنا أذكر لكم قصة رجل أعرفه و هو لا يزال موجودا بيننا أختم به الدرس، هذا شاب أصله من السودان كان والده يدرس في أمريكا وولد هو في أمريكا، فصار مستحقا للجنسية الأمريكية، ودرس هناك المرحلة الأولى الجامعية و أخذ الماجستير في الهندسة و شرع أيضا في مرحلة الدكتوراه، و كان في المسجد أو المركز الإسلامي الذي هو فيه بعض إخواننا ممن يسكنون معنا في هذا الحي وهو ممن يحفظ أكثر القرآن و يجوده و قراءته جميلة، فكان يؤم فيهم بالصلاة، فلفت نظره، يقول ما كنت قد سمعت قراءه بمثل هذه الجودة و الحلاوة، ثم سألت فقيل أن هذا يحفظ عشرين أو خمسة و عشرين، ففكرت أنا مسلم و لا أحفظ القرآن و أحسن قراءة القرآن، فعزمت أن أحفظه، فماذا صنع، أوقف دراسته و أخذ إجازة، و جاء إلى المملكة متفرغا للحفظ، يقول يريد أن يحفظ و أن يتعلم بعض الأمور من الحديث و بعض العلوم الإسلامية، وجاء إلي مرسلا من هذا الأخ الذي هو جار لنا فوجدت عنده همة و عزيمة عالية، فذهب إلى مكة في الحرم متفرغا و للترتيب مع بعض المدرسين لعلهم أيضا أعانوه في ذلك، فأتم الحفظ في مئة يوم يعنى ثلاثة أشهر و عشرة أيام في الحرم، أغلب وقته متفرغا لهذه في الحرم و يمكث فيه الوقت الطويل، ثم جاء إلى هنا مرة أخرى فطلب أن يلتحق بمدرس أو محفظ حتى يراجع و يسمع الختمة عشر و عشرين مرة، فألحقته بأحد حلقات واحد من المدرسين الجيدين و بمدرس آخر للتجويد فهو الآن يسمع وهو مواظب و منتظم لا يغيب يوما واحدا، و ما جاء إلا لهذا و ما فرغ وقته إلا لهذا و ما قطع دراسته إلا لهذا. إذا المسألة إن شاء الله بالنية و العزيمة و الله يبارك ويوفق و يعين.




Baca selengkapnya......